تعتبر ثورة عاشوراء حدث جسد مبدأً، فهي ثورة الحقّ المكبوت على الباطل الطاغي، وتلاشت المواصفات الفردية فيه، لأنّ الإمام الحسين (ع) صاغه صياغة بعيدة عن أية ضلال للأنانية، بشكل يبدو ومبدأً محضاً لا حدث فيه، فأصبح مستمراً في كلّ مظهر من مظاهر ثورة الحقّ المكبوت على الباطل الطاغي. فعاشوراء مستمر لا يمكن مسحه من ذاكرة الحياة مع بقية مبادئ الكون التي لا تنمحي من ذاكرة الحياة.
هكذا... يمكن أن نقيّم عاشوراء – إذا أردنا أن نكون موضوعيين – لا أن نقيمه ورقة في أرشيف العزاء، ولا أن نصفه ذكرى رجل عظيم يحفظ على صحف العظماء.
ومن هنا: تنعكس أصداء عاشوراء على الحياة بعد واقعة كربلاء فقط، وإنما كان مبدأً مكمّلاً لمبادئ الكون، فكان متوقعاً أن يظهر في الوقت المناسب له، فانعكست أصدائه على الحياة بتحرك أوّل الأحياء على الأرض لاكتساب رحمة السماء يوم أراد آدم أن يتوب، وتتابعت تلك الأصداء كلما تحرك إنسان نحو مبادئ الكون، فالأنبياء جميعاً تذكروا عاشوراء وتفاعلوا به وهم ينجزون أكبر أعمالهم. ولا يمكن أن يمارس أي عظيم أهم أعماله دون أن يتذكر عاشوراء ويتفاعل به، ومن هنا: نجد العظماء يمجدون عاشوراء كما يمجدون بقية مبادئ الكون، رغم مذاهبهم الفكرية والدينية.
فالحسين لم يبقَ ملك طائفة ولا ملك نفسه وهو يحقق عاشوراء وإنما أصبح مبدأً يرفض الاستملاك كبقية المبادئ، فقد سلخ فرديته ليجري مع العقل في خلال دماغ كلّ إنسان ينمر للاستعلاء على واقع فاسد. كانت نهضة الإمام الحسين (ع) تقويماً لكلّ الانحرافات التي مرّت في حياة المسلمين من الوجهة السلوكية والأخلاقية، كما دفعت هذه النهضة بحركة الإسلام الحضارية إلى أن يستهدي طريقها الرسالي الملتزم الواضح من جديد، بل إنّها كانت هي الحركة التأريخية الفعّالة التي عمقت الرسالة الإسلامية عبر التأريخ.
إنّ جهاد الحسين بكلّ أبعاده هو التأريخ الرائد لحتمية كلّ انتصار يستهدفه الأبطال المجاهدون في جهادهم ونضالهم، بل انّ تخطيط هذا الجهاد بكلّ أبعاده هو الذي صاغ التأريخ البناء في حياة المسلمين، وهو الذي دفع بمسيرتهم إلى التفاعل مع الرسالة الإسلامية في مفهومها الواقف الأصيل. ونهضة الحسين (ع) هي أعظم ملحمة تأريخية تجسدت فيها بطولات الإسلام وانتصاراته، وبفضل معالم تلك الثورة ومبادئها، وما تكتنفها من أهداف رسالية انتهت إلى الفوز بالشهادة والتضحية في سبيل الحقّ والعدل.
وما عاشوراء – ببطولاتها وأمجادها – سوى نهضة تمثل فيها ذلك الصمود الرائع الذي استوعب الأجيال كلّها، فظلت عاشوراء تعكس صور الفداء والعطاء، وصور العِبرة والعَبرة، وصور الأسوة والقدوة، وظلت واقعة تزيد من خلال هذه المواقف وتعمق عطاءها، كما تبين قيمتها ودورها في حياة الأُمّة.
وماذا عن الحسين في ذكراه؟ أليس هو مجموعة مواقف في الصمود والكرامة وعدم الاستسلام؟ وعن ماذا يبحث المقهورون والمسحوقون في أرض وزمان غير الصمود والكرامة وعدم الاستسلام؟ إنّ الحسين (ع) نفسه عقيدة يعيشها المناضلون الأحرار في نفسهم وصمودهم، وهو نفسه طاقة وهّاجة يهتدي بها القادة المصلحون في ثوراتهم وانتفاضاتهم. وجهاد الحسين (ع) لم تتفجر كلّ طاقاته وقدراته النضالية إلّا لترك الحواجز التي تقف دون مسيرة الرسالة الإسلامية ودون تصاعد الحياة الفعلية والسياسية التي أوجدها الإسلام في مسارب الأجيال والمجتمعات، والتي كانت صورة طبق الأصل لمجتمع الجاهلية القديمة، إن لم تكن أسوأ.
ولئن كان التأريخ إلى ما قبل الثورة التي قام بها النبيّ (ص) عبداً أجيراً على أبواب بيوت الحكام والأثرياء وأصحاب المجد الزائف، وكان الناطق الرسمي باسمهم بينما كان يهمل المعارضة والطبقات المسحوقة من الشعب، فلا يتحدث عن الجواري والعبيد إلّا عندما يذكر الملوك والأباطرة. لئن كان التأريخ كذلك قبل الرسول (ص)، فإنّه قد تتبدل في عهده، فبدل أن يستجدي الأخبار على عتبات قصور السلاطين، ذهب برفقة الضعفاء وسجّل بؤسهم وفقرهم، وكتب عنهم ما أصبح رفيق دروب المناضلين من أجل الله والمستضعفين في الأرض، ولكن الحال عاد فانتكس ثانية، فرجع التأريخ كما كان تأريخاً سلطانياً يمثل وجهة نظر الحاكمة ورؤية للرعية أو الماشية حسب هذا التأريخ، التي لا حقّ لها أن ترفض وتحتج فضلاً عن تقبل وتريد. هنا ثار الحسين فدخل التأريخ من أوسع أبوابه، باب الشهادة فدخله بطلاً ثائراً صامداً رسالياً متحدياً قائداً، فأصبح هو الملجأ وأصبح هو الرمز، فأصبح هو الثائر وهو الدم الذي لا يتوقف عن الفوران، وهو الراية التي يسير تحت لوائها كلّ مظلوم وكلّ مقهور ليكون كما الحسين، رسالياً، ملتزماً، ثائراً، شجاعاً.
والثورة لا تبرز أهميتها في استشهاد مائة رجل وسحق خمسين طفلاً وطفلة تحت حوافر الخيل وسبي نساء كثيرات، ولا حتى في طريقة الشهداء في اختيار الموت، فالتأريخ يحفل لثورات كثيرة، ربما كانت أكثر بشاعة وفظاعة في قمعها وخنقها – من قبل السلطات – من ثورات الحسين، ولكنها لا ترى إلى ثورة الحسين من حيث المستوى البطولي. ولكننا نعرف أهمية الثورة إذا نظرنا إلى ظروفها، وكيف أنّه ثار وحوله ركود اجتماعي ولا مبالاة جماعية، ويأس من إمكانية التغيير إذا عرفنا ذلك، فسندرك قيمة ثورة الإمام، ليس فقط كأنبل ثورة في التأريخ وإنما كرمز! فالرمز في هذه الثورة هو الأهم، لأنّه العطاء الذي لا يتوقف والمعين الذي لا ينضب، ونقطة الدم الساخنة التي ستظل تنزف بالكبرياء والكرامة وتنصر بالحقّ والحرّية على امتداد الزمان ومرور الأجيال.
وبعد عاشوراء انعكس روح المقاومة التي أبداها أصحاب الحسين خلال نهار واحد وقتلوا فيها جميعاً، انعكست هذه الروح على الجماهير، فشعرت ربما للمرّة الأولى أنّ روح الثورة لا زالت تشتعل فها هي طلائع الأُمّة تحمل السلاح وتقاتل وتقتل في سبيل حقّها وحرّيتها وكرامتها. وامتدت إرادة القتال إلى كلّ المسلمين، وأشعلت عاشوراء أملاً كاد أن يموت في القلوب، ونوراً كاد أن يخبو في الأفئدة، فأصبحت مقاومة الظلم والظالمين حتمية فرضتها كربلاء، وروح كربلاء. أليس الحسين، وهو أقدس رجل قد قاتل وقد قُتل؟ إذن، فلنكن نحن مهما كنا كالحسين نقاتل ونقتل.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق