• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عظمة وخلود عاشوراء

عظمة وخلود عاشوراء

◄يوم العاشر من محرم سنة 61هـ، شهد التاريخ الإسلامي حادثة ضخمة هائلة تركت أثرها على العصور التالية حتى يومنا هذا. إنها حادثة كربلاء واستشهاد الحسين والهاشميين من أهل بيته، والصحابة الكرام البررة الذين واسوه في ساعة العسرة.

هذه الحادثة اكتسبت عظمتها وخلودها من أمور:

1- المواقف الرسالية للحسين ومَن معه، فلم يكن فيها أدنى ما يشير إلى مطمع صغير بل كان الهدف كبيراً.. كبيراً جدّاً.. فكأنهم جميعاً كانوا يقولون: اللّهمّ إن كان هذا يرضيك فخذ منّي ما يرضيك.. وابتغاء رضا الله سبحانه مَطمح ما بعده مطمح.

2- القدسيّة، وكلّ موقف في سبيل الله يكتسب قدسيّة.. لكن حادثة كربلاء كانت بقيادة ريحانة رسول الله، وأحد شبابي أهل الجنة، وعزيز الزهراء عليهم جميعاً صلوات الله.

3- خطاب جبهة الحسين بما فيه من إنسانية بلغت الغاية في نُصح من باع ذمّته وانحطّت سريرته، وبلغت القمة في بيان الهدف النبيل: "ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي.. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".

4- أرتكاس جبهة قَتَلَة الحسين في غاية الخسّة والدناءة والوحشية والفظاظة، بقتل الطفل الرضيع، ومنع الماء، وقطع الرؤوس، ورضّ الأجساد بحوافر الخيل، وحرق الخيام، وإرهاب النساء والأطفال، وسلب المال والمتاع و.. و.. مما ينبئ أنّ النفس الإنسانية إذا انحطّت فليس ثمة حدّ للانحطاط، تماماً إذا سمت فليس هناك حدّ للسموّ.

5- المظلومية المنتصرة، وهذا من غرائب التاريخ، أن تكون جماعة تصاب بهزيمة في الظاهر، ثمّ تسجل انتصاراً باهراً في قدرتها على الدخول إلى القلوب، وتحريك الضمائر الخامدة، وترسيخ شعار "هيهات منّا الذلّة"، بل وتصبح رمزاً للثائرين على مرّ العصور، حتى يومنا هذا!!

6- المنطق الإحيائي في حادثة كربلاء، فقد واجه الحسين مجتمعاً كاد ينحرف عن الأهداف الرسالية (عن القرآن والسنّة)، وينغمس في أهوائه ومتطلبات حياته اليوميّة وفي خسيس العيش كالمرعى الوبيل كما وصفه الحسين. فعمد إلى بعث هزّة تحييه وتنتشله من السقوط، وقد نجح في ذلك أيما نجاح، حين استيقظ المسلمون بعد الحادثة، وتوالت الثورات تلو الثورات حتى استأصلت شأفة الظالمين، وتواصلت مسيرة الأُمّة في حركة تكاملية معنوية ومادية تجلت فيما بعد بدوحة الحضارة الإسلامية.

7- ظاهرة التخطيط الحسيني الدقيق لحادثة كربلاء، لتحقيق الهدف المتمثل في دخولها عمق الوجدان الإسلامي، وفي إمكام حَمل النداء إلى العالمين. واشترك في تنفيذ هذا التخطيط بالدرجة الأولى الحسين وأخته زينب (عليهما السلام).

ما وصلنا من وثائق تاريخية عن واقعة كربلاء، يدلّ على أنّ الحسين أدخل في ساحة المعركة كلّ ما يمكن أن يبعث صقعة في النفوس الخامدة والضمائر الميتة، من طفله الرضيع إلى شباب بني هاشم، وإلى أولاده وأهل بيت رسول الله، ثمّ إنّه (ع) لم يترك فرصة إلّا وأعلن فيها عن أهدافه وبيّن مرامه وأكّد صموده وإصراره على عدم الاستسلام للدنيّة وعدم مبايعة الفاجر الفاسق.

ومواقف زينب (ع) تدلّ أيضاً أنها كانت مُعَدّة مسبَقاً لمواصلة الخطّة بعزيمة ورباطة جأش واستقامة، وهكذا فعلت في الكوفة والشام والمدينة، بل وفي شمال أفريقيا على أقوى الاحتمال.

هذه كلّها وغيرها اجتمعت لتجعل من حادثة كربلاء خالدة على مرّ التاريخ، ومحفّزة للأُمّة تدعوها أن لا تداهن ولا تهادن ولا تتخاذل ولا تتراجع، بل تمضي على بصيرة من أمرها مقتدية بأبيّ الضيم وسيّد شباب أهل الجنة عليه وعلى جدّه وأبيه وأُمّه أفضل الصّلاة والسّلام.

 

العناصر الثلاثية للنهضة الحسينية:

إنّ لنهضة الإمام الحسين (ع) ثلاثة عناصر هي:

المنطق والعقل، والحماسة المشفوعة بالعزّة، والعواطف.

 

عنصر المنطق والعقل:

إنّ عنصر المنطق والعقل في هذه النهضة يتجلّى من خلال كلمات ذلك العظيم. فكلّ فقرة من كلماته النيّرة التي نطق بها (ع)، قبل نهضته عندما كان في المدينة وإلى يوم شهادته، تُعرب عن منطق متين، خلاصته: إنّه عندما تتوفر الشروط المناسبة يتوجَّب على المسلم تحمُّل المسؤولية، سواء أدّى ذلك إلى مخاطر جسيمة أم لا.

وإنّ أعظم المخاطر تتمثل في تقديم الإنسان نفسه وأعزاءه وأهل بيته إلى أرض المعركة وفي معرض السبي قربة لله.

إنّ مواقف عاشوراء هذه أصبحت أمراً طبيعياً عندنا لكثرة تكرارها، مع أنّ كلَّ موقف من هذه المواقف يهزّ الأعماق.

بناءً على ذلك، عندما تتوفر الشروط المتناسبة مع هذه المخاطر، فعلى الإنسان أن يؤدي واجبه، وأن لا يمنعه عن إكمال مسيرته التعلق بالدنيا والمجاملات وطلب الملذات والخلود إلى الراحة، بل عليه أن يتحرّك لأداء الواجب.

ولو تقاعس عن الحركة، لنتج عن ذلك تزلزلٌ في أركان إيمانه وإسلامه، قال رسول الله (ص): "من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ولم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّا على الله أن يُدخله مُدخله".

هذا هو المنطق، فلو أنّ أصل الدين تعرض إلى خطر ولم يُغيّر ذلك بقول أو فعل، كان حقاً على الله أن يبتلي الإنسان اللاأبالي والغير ملتزم بما يُبتلى به العدو المستكبر والظالم.

لقد بيّن الإمام الحسين (ع) هذه المسؤولية من خلال كلماته المختلفة في مكة المكرمة والمدينة المنورة وفي أماكن كثيرة خلال مسيره، وبيّن ذلك في وصيته إلى أخيه محمّد بن الحنفية.

كان الإمام الحسين (ع) على علم بعاقبة هذا الأمر، وينبغي أن لا يُتصور أنّ الإمام (ع) علّق آماله على نيل السلطة وتحرك من أجلها، وإن كانت هذه السلطة من الأهداف المقدسة، كلا، فليس هناك ما يستوجب علينا أن نعتقد بذلك؛ لأنّ عاقبة هذا الطريق متوقعة وواضحة طبق الحسابات الدقيقة للإمام الحسين (ع) والرؤية الإمامية، إلا أنّ أهمية المسألة تتأتى من هذا الجانب، وهو أنّ ما قدّمه الحسين على عظمته وسموّ مكانه من تضحية كبرى يعتبر درساً عملياً بالنسبة للمسلمين إلى يوم القيامة، وليس درساً نظرياً يُكتب على لوحة الكتابة ثمّ يُمحى، كلا، فقد خُطّ هذا النهج بأمر إلهي على صفحات جبين التاريخ، وأدى ثماره إلى يومنا هذا.

بناءً على ذلك، لا ينحصر تفسير نهضة الإمام الحسين (ع) بالجانب العاطفي، فهذا الجانب غير قادر على تفسير جوانب الواقعة لوحده.

 

الحماسة:

العنصر الثاني: الحماسة؛ أي أنّ العملية الجهادية الملقاة على عاتقنا، يجب أن تقترن بالعزة الإسلامية: لأنّ؛ (لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/ 8)، وعلى المسلمين أن يحافظوا على عزّتهم وعزّة الإسلام، ولابدّ أن يتحلّى الإنسان المسلم بسمات الشموخ والعزّة في أشد الأزمات.

لو أننا نظرنا إلى الصراعات السياسية والعسكرية المختلفة في تاريخنا المعاصر، سوف نجد حتى أولئك الذين كانوا يحملون السلاح ويخوضون الحروب، ويُعرِّضون أنفسهم أحياناً إلى مواقف الذلّة، إلا أنّ هذه المسألة ليس لها وجود في فلسفة عاشوراء، فعندما يطلب الإمام الحسين (ع) أن يمهلوه ليلة واحدة، يطلبها من موقع العزّة، وحينما يقول: "هل من ناصرٍ ينصرنا" فإنّه يطلب النصرة من موقع العزّة والاقتدار، وعندما تلتقي به الشخصيات المختلفة في الطريق بين المدينة والكوفة، ويتكلم معهم ويطلب النصرة من بعضهم، لم يكن ذلك من موقع الضعف وعدم القدرة. وهذا أحد العناصر البارزة في نهضة عاشوراء.

 

العاطفة:

العنصر الثالث: العاطفة؛ أي أنّه قد أصبح للعاطفة دور مميّز في واقعة كربلاء وفي استمرارها، ممّا أدّى إلى تميّز النهضة الحسينية عن النهضات الأخرى، فواقعة كربلاء ليست قضية عقلية جافة ومقتصرة على الاستدلال المنطقي، بل قضية اتّحد فيها الحب والعاطفة والشفقة والبكاء.

إنّ الجانب العاطفي جانب مهم؛ ولهذا أُمرنا بالبكاء والتباكي واستعراض مشاهد المأساة.

لقد كانت زينب الكبرى (ع) تخطب في الكوفة والشام بقوّة وشجاعة، إلا أنّها في نفس الوقت تقيم مآتم العزاء، وقد كان الإمام السجاد (ع) بقوته وصلابته ينزل الصواعق على رؤوس بني أُميّة عندما يصعد المنبر، إلا أنّه كان يعقد مجالس العزاء في الوقت نفسه.

إنّ مجالس العزاء مستمرة إلى يومنا هذا، ولابدّ أن تستمر إلى الأبد لأجل استقطاب العواطف، فمن خلال أجواء العاطفة والمحبة والشفقة يمكن أن تُفهم كثير من الحقائق، التي يصعب فهمها خارج نطاق هذه الأجواء. ►

ارسال التعليق

Top