• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

علاج التكبّر العبادة

علاج التكبّر العبادة

◄العبادات وسائل تربوية لإزالة التكبّر وبناء الإنسان الصالح

 

آفاق عليّ (ع):

يقول (ع): "الله الله في عاجل البغي". غالباً ما تُستَخدَم كلمة (الله الله) في اللغة العربية في المواقع التي يراد فيها التعبير عن أهمية الموضوع، بحيث يطلق ذلك التعبير بما يُشبه الاستغاثة لمواجهة كلّ مفاعيل الموضوع إن كان سلباً أو إيجاباً، وهذا ما لاحظناه في آخر وصية للإمام عليّ (ع) قال: "الله الله في الأيتام.. والله الله في جيرانكم.. والله الله في الصلاة.. والله الله في القرآن..."، وغير ذلك.

وحتى نفهم قول أمير المؤمنين هنا، لابدّ من التعريف بالبغي وما يخلِّفه من نتائج، حيث يمثّل البغي حالة عدوان على الناس بغير حقّ، ما يؤدي إلى نتائج سيئة من خلال ابتعاد الإنسان عن مسؤوليته التي حمّله الله إياها، وما يخلّفه ذلك من آثار سلبية على المستوى الاجتماعي، فكأنه (ع) يقول إنّ البغي الصادر من أي شخص أو من أية جماعة، يستجعل نتائجه السلبية ضد الذين يمارسونه، ولذلك فإنّ على الإنسان أن يحذر حينما يمارس البغي على الناس أن تصيبه نتائجه السلبية عاجلاً، "وآجل وخامة الظلم" لأنّ الظلم إنْ لم يؤدِ إلى نتائج سيئة ووخيمة في القريب العاجل، فسوف يؤدي في نهاية المطاف إلى عاقبة وخيمة.

"وسوء عاقبة الكبر" لأنّ الإنسان المتكبِّر قد يتصوّر أنّه في المستوى الأعلى بالنسبة للآخرين، فيستعلي على الناس، ويستعرض عضلاته أمامهم، ويعمل للسيطرة عليهم، ولكن نتائج أعماله ستؤدّي به إلى الانكشاف أمام الناس، وسيعرفون عندئذٍ أنّ هذا التكبر لم يكن منطلقاً من حالة غِنىً في الشخصية، وإنما من حالة انتفاخ فيها، كما قال الشاعر المتنبي أمام سيف الدولة الحمداني وهو يعرِّض ببعض خصومه من الشعراء:

أعيذها نظرات منك صادقة *** أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

قد تتصور أنّ الإنسان يمتلئ شحماً، وهو في حقيقته يمتلئ ورماً لا شحماً، ولذلك فإنّ كثيراً من المتكبرين يملكون ورم الشخصية ولا يملكون الشحم واللحم الذي يعطي الضخامة الحقيقية للجسم، "فإنّها" أي هذه الأمور "مصيدة إبليس العظمى" حيث يتصيّد الناس بالبغي والظلم والكبر ويوقعهم في حبائله وخدعه وأمانيه، "ومكيدته الكبرى التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة" تلك السموم التي تواكب قلوب الرجال وتسيطر عليها وتترك تأثيراتها السلبية، فكما تدخل السموم القاتلة إلى جسده فتفتك به، كذلك الأمر في النساء؛ لأنّه لا يُقصد بالتعبير إلّا الإشارة إلى الغالب في مقام التخاطب، "فما تكدي أبداً" في اللّغة أكدى الحافر إذا عجز عن التأثير في الأرض، والمعنى أنّ تلك الآفات ليست عديمة التأثير، بل إنّها تسيطر على الإنسان وتدخل حياته، "ولا تشوي أحداً". يقال أشوت الضربة أي أخطأت المقتل، وقد ورد قوله تعالى: (نَزَّاعَةً لِلشَّوَى) (المعارج/ 16)، أي نزّاعة الأطراف. ومعنى قوله "لا تشوي أحداً" أنّها لا تنال الأطراف من الأيدي والأرجل، بل تصيب المقتل، "لا عالماً لعلمه ولا مقلاً في طمره". الطمر هو الثوب، ومقصوده (ع) أنّه لا يحقق النتائج لأحد من الذين يمارسونه بطريقة وبأخرى.

 

المنهج التربوي لبناء الإنسان:

بعد هذا العرض من سلبيات البغي والظلم ومن الكبر، يدخل الإمام عليّ (ع) في العلاج الروحي الذي عالج الله سبحانه وتعالى به هذه الأمراض الكامنة في الإنسان نتيجة الأوضاع المحيطة به: "وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات تسكيناً لأطرافهم" يعني حتى تخشع أطرافهم "وتخشيعاً لأبصارهم" لأنّ الإنسان عندما يتعبّد لله ويتقرّب إليه، وعندما يعيش عظمة الله في نفسه وحاجته له في كلّ أموره، أي عندما ينطلق في هذا الجو المنفتح على الله سبحانه وتعالى، فإنّه يعيش حالة الخشوع من خلال الرهبة أمام الله والشعور بالحقارة أمام عظمته سبحانه، الأمر الذي يجعله يواجه الناس بالتواضع ويعيش معهم بالذلّة، ولكنها الذلة التي تنسجم مع عبوديته لله وليست الذلّة التي يسقط معها أمام الناس.

ولذلك ورد في بعض الأدعية المأثورة: "اللّهمّ ذللني في نفسي وعظمني عندك"، أو كما ورد عن الإمام الرضا (ع) في وصف بعض الأشخاص الذين يمثِّلون القيمة الروحية: "الذل في الله أحب إليه من العزّ مع عدوّه"، لأنّ الإنسان عندما يذل أمام الله الذي خلقه ورزقه، فإنّ العزة في ذلك؛ لأنّ الذلّ أمام الله يدفعه ليطيع الله، وهذا ما عبّر عنه الإمام زين العابدين (ع) حينما قال: "الحمد لله رضاً بحكم الرضا، شهدت أنّ الله قسّم معايش عباده بالعدل، وأخذ على جميع خلقه بالفضل، اللّهمّ صلّ على محمّد وآله، اللّهمّ لا تفتنّي بما أعطيتهم، ولا تفتنهم بما منعتني، فأحسد خلقك وأغمط حكمك... وأعصمني من أن أظن بذي عدم خساسة، أو أظن بصاحب ثروة فضلاً، فإنّ الشريف من شرّفته طاعتك والعزيز من أعزته عبادتك".

وكذلك ما ورد: "مَن أراد عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذل معصية الله إلى عزّ طاعته". فالعبودية لغير الله ذل.

أما العبودية لله فهي العز، لأنّك عندما تعبد الله وحده، فإنّك تشعر بالحرّية أمام الكون كلّه، ولذلك فإنّ العبودية لله لا تمسُّ حرّية الإنسان، بل تؤصّلها وتؤكّدها: لأنّ ارتباطك الوجودي بالله هو سرّ وجودك، فهو الخالق والمهيمن على الأمر كلّه في كلّ أمورك، ما يجعل عن عبوديّتك له وافتقارك المطلق إليه مسألة تتّصل بذاتك في معناك كلّه، فلا تنقص منك شيئاً، بل تزيد من إحساسك بالقوة من خلال هذا الارتباط.

"وتذليلاً لنفوسهم وتخفيضاً لقلوبهم"، لأنّ القلب يخشع أمام عظمة الله، وقد قال الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (الأنفال/ 2)، يعني أنّهم يعيشون الخوف منه، ومن الطبيعي أن يخفض هذا الخوف القلبَ ويجعله لا ينبض بالعنفوان الذاتي الذي يكرِّس الكبر عند الإنسان. "وإذهاباً للخيلاء عنهم"، لأنّ الشخص الذي يعيش الخيلاء وهو يستعرض عضلاته وأمواله ووجاهته أمام الناس، فإنّه يعيش حالةً معاكسةً لذلك، حيث يسجد لله على جبهته يعفّر جبهته" الجبهة التي تُمثِّل العنفوان، فيعفّر الإنسان وجهه وجبهته بالتراب ويركع لله، "ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه" التي تعيش العظمة والوجاهة، "بالتراب تواضعاً، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً" وذلك عندما تمد يدك في الصلاة ورجليك تصاغراً لله سبحانه وتعالى، فتقف وقفة المستسلم، فإنّ ذلك يعطيك معنى التواضع.

أما في الصيام، فيقول (ع): "ولحوق البطون بالمتون من الصيام تذللاً" حيث تضمر بطنه فلا تنتفخ. وكذا حال الزكاة، حيث نلمس فيها من التصاغر والتذلل لله سبحانه وتعالى، لأنّ الإنسان عندما يُخرج من ماله الذي حصّله بعرق جبينه، فإنّه يتصاغر لله سبحانه، حيث يجعل الفقراء وأهل المسكنة شركاء في أمواله، وهذا لا يتناسب مع شعوره بالغنى والرفعة التي قد يورثها المال في نفسه، فيقول (ع): "مع ما في الزكاة من صرف ثمرات الأرض إلى أهل المسكنة والفقر".

والإمام عليّ (ع) يرى هذه العبادات وسائل للتربية الإسلامية، من أجل أن يتعمق التواضع والتذلّل والتصاغر والانفتاح على أهل المسكنة والفقر، فقال (ع): "انظروا إلى ما في هذه الأفعال" العبادية "من قمع نواجم الفخر" يعني ما يبرز منها، " وقدع طوالع الكبر" أي منع، والمقصود أنّها تمنع مظاهر الكبر وبداياته.

ويقترب من ذلك المنهج ما ورد عن الإمام زين العابدين (ع) في دعاء (مكارم الأخلاق)، حيث يبيّن الأسلوب التربوي الذي بواسطته يسيطر الإنسان على نوازعه الشخصية، فكلُّ إنسان عندما يعيش الوجاهة الاجتماعية والاقتصادية أو السياسية أو الدينية، فيعظّمه الناس أو يهتفون باسمه، فعادة ما يشعر بالخيلاء فتنتفخ شخصيته.. فيقول الإمام زين العابدين (ع): "اللّهمّ لا ترفعني في الناس درجةً إلّا حططتني عند نفسي مثلها" أي أنّني عندما ارتفع في الوسط الاجتماعي، فإنّي أدعوك أن لا أُشغل بهذه الأبهة والعظمة، وأن تجعلني أنزل إلى نفسي لأكتشف ضعفي، حتى أدخل في موازنة بين ما في الخارج عندما تكبر نفسي عند نفسي، وبين ما في الداخل عندما تصغر نفسي عند نفسي.. "ولا تُحدث لي عزاً ظاهراً إلّا أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها"، بحيث إنّني عندما انطلق مع مظاهر العز، فإنّي أنزل إلى نفسي لاكتشف فيها ما يشعرني بالذل حتى لا يطغيها هذا العز.

 

مراقبة النفس:

وهذا هو ما أكّد عليه الإسلام في أخلاقياته، وخصوصاً في قضية محاسبة النفس، حيث لابدّ للإنسان أن يحاسب نفسه دائماً، لأنّ الناس قد تُشغل الإنسان عن نفسه، خصوصاً إذا كان للشخص موقع اجتماعي متميز، فيضخمونه ويعظمونه ليستغلوه في جوانب أخرى بقولهم: أنت الشخص المجدِّد، وأنت الشخص الذي يملك الثقافة وما أشبه ذلك. والإنسان عادةً وبشكل لا شعوري يؤخذ بتلك الواجهات، ولذا لابدّ للإنسان أن يوازن بين نقاط الضعف ونقاط القوة في نفسه. ولذلك جانب عملي أيضاً، لأنّك عندما تطّلع على نقاط القوّة في نفسك، فإنّك تحاول أن تنمّيها، وعندما تطّلع على نقاط الضعف فتحاول أن تزيلها. ولكن المشكلة أنّنا شُغِلنا عن أنفسنا بما حولنا وبمن حولنا.

ومن باب (الكلام يجر الكلام)، فإنّنا لو أجرينا إحصائية لمعرفة مدى محاسبة الإنسان نفسه، فمن منا يجلس مع نفسه ساعة ليدرس نفسه؟ إذ نحن لا نفرّغ لأنفسنا من الصباح وحتى الليل، ولذلك نستطيع أن نعطي تقريراً عن كلّ الناس، ولكننا لا نستطيع أن نعطي تقريراً عن أنفسنا، وذلك لو أنّ شخصاً فاجأك وقال لك: كيف نظرتك إلى فلان، فربّما تتكلم عنه ساعتين. ولكن إذا فاجأك وقال لك مَن أنت؟ وما هي خطوطك السياسية والاجتماعية، فإنّك تقول له اسمح لي بالتفكير لمدة ما، إذا كان أحدنا لا يفهم نفسه، فكيف يفهم الآخرين؟!. ولذلك يقول الإمام عليّ (ع) في بعض كلماته في (نهج البلاغة): "لا يشغلنّك سواد الناس عن نفسك، فإنّ الأمر يصدر إليك دونهم، فقد يأتي البعض ويشغلك بكلام ما ويذهب، ولكن ذلك الكلام يبقى يتفاعل في نفسك، وقد يسبب الكثير من السلبيات في حياتك. ولابدّ أن نعيش ذلك في أنفسنا أوّلاً، لأنّ قضية تربية النفس هي قضيتك أنت؛ لأنّك عندما تربي نفسك على القيم والأصول فإنّك تكبر بذلك، وثانياً عندما تقف بين يدي الله سبحانه وتعالى فأنت تبرز بنفسك في هذا المقام بما تفكر وبما تحب وبما تغضب وبما تتحررك أمام الله سبحانه وتعالى، وقد ورد في مضمون الحديث: "إنّ الله لا ينظر إلى وجوهكم ولكن إلى قلوبكم" فإنّ الله ينظر إلى المنطقة الداخلية للإنسان، للعقل والقلب والشعور والإحساس.

ومن خلال ما قدّمناه من كلام أمير المؤمنين عليّ (ع)، علينا أن نحاول أن نجعل من صلاتنا وصيامنا وزكاتنا وسيلة تربوية، بحيث لا تكون مجرد حركات لا معنى لها. ويبقى الكلام مع الإمام عليّ (ع) في ما ينتجه الكِبر من العصبية.►

ارسال التعليق

Top