• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

في عيوب النفس والبصيرة بها

في عيوب النفس والبصيرة بها

◄اعلم أنّ الله إذا أراد بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه فمن كملت له بصيرته لم تخف عليه عيوبه، وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج ولكن أكثر الناس جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه، فمن أراد أن يقف على عيب نفسه فليطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً فينصبه رقيباً على نفسه ليراقب أحواله وأفعاله، فما يكرهه من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبّهه عليه أو يستفيد معرفة عيوب نفسه من لسان أعدائه، فإنّ عين السخط تبدي المساوي كما قيل:

وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة *** ولكنّ عين السخط تبدي المساويا

ولعل انتفاع الإنسان بعدوّ شاحن يذكر عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه إلّا أنّ الطبع مجبول على تكذيب العدو وحمل ما يقوله على الحسد، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه فإنّ مساويه لابدّ وأن تنتشر على ألسنتهم، أو يخالط الناس فكلّ ما يراه مذموماً فيما بين الخلق فيطالب نفسه بتركه؛ وما يراه محموداً يطالب نفسه به وينسب نفسه إليه، فإنّ المؤمن مرآة المؤمن فيرى في عيوب غيره عيوب نفسه.

وليعلم أنّ الطباع متقاربة في اتباع الهوى فما يتّصف به واحد من الأقران لا ينفك القرين الآخر عن مثله أو عن أعظم منه أو عن شيء منه، فيتفقد نفسه ويطهرها عن كلّ ما يذمه من غيره، وناهيك بهذا تأديباً، فلو ترك الناس كلّهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب قيل لعيسى (ع): "من أدّبك؟ فقال: ما أدّبني أحد رأيت قبح الجهل فجانبته".

وفيما يؤدي إلى مساوي الأخلاق من البطن والفرج واللسان، اعلم أنّ الأخلاق إنما تترسّخ في النفس بتكرير الأعمال، والأعمال إنما تصدر من القلب بتوسّط الجوارح وكلّ جارحة تصلح لأن يصدر منه الأعمال الحسنة الجالبة للأخلاق الجميلة وأن يصدر منه الأعمال القبيحة الموروثة للأخلاق السيئة، فلابدّ من مراعاة القلب والجوارح بصرفهما إلى الخيرات ومنعهما من الشرور، وأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن والفرج واللسان.

ففي الحديث النبويّ (ص): "من وقى شر قبقبه وذبذبه ولقلقه فقد وقى" والقبقب البطن، والذبذب الفرج، واللقلق اللسان أما شهوة البطن فبها أخرج آدم وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار إذ نهيا عن أكل الشجرة فغلبتهما شهوتهما حتى أكلا منها بدت لهما سوآتهما.

والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات، إذ يتبعها شهوة الفرج وشدّة الشبق إلى المنكوحات، ثمّ يتبع شهوة المطعم والمنكح شدة الرغبة في المال والجاه الذين هما الوسيلة إلى التوسع في المطعومات والمنكوحات ثمّ يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات، ثمّ يتولد من ذلك آفة الرياء وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء، ثمّ يتداعى ذلك إلى الحقد والعداوة والبغضاء، ثمّ يقضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء.

وكلّ ذلك ثمرة إهمال المعدة وما يتولد من بطر الشبع والامتلاء، ولو ذلل العبد نفسه بالجوع وضيق مجاري الشيطان لأذعنت لطاعة الله ولم تسلك سبيل البطر والطغيان ولم ينجرّ به ذلك إلى الانهماك في الدنيا وإيثار العاجلة على العقبى، ولم يتكالب كلّ هذا التكالب على الدنيا.

قال النبي (ص): "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه وإن كان هو فاعلاً لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنفسه".

وقال (ص): "لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإنّ القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء".

وقال (ص): "أفضلكم منزلة عند الله أطولكم جوعاً وتفكراً وأبغضكم إلى الله تعالى كلّ نؤوم أكول شروب".

وقال الصادق (ع): "إنّ البطن ليطغى من أكلة، وأقرب ما يكون العبد إلى الله خفّ بطنه وأبغض ما يكون العبد إلى الله إذا امتلأ بطنه".

وقال الصادق (ع): "ما من شيء أضرّ لقلب المؤمن من كثرة الأكل وهي مورثة شيئين: قسوة القلب وهيجان الشهوة، والجوع ادام للمؤمن وغذاء للروح وطعام للقلب وصحة للبن".

وقال لقمان لابنه: "يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة".

وبالجملة ففوايد الجوع كثيرة منها صفاء القلب ورقّته والاستلذاذ بالطاعة، والانكسار المانع عن المعصية والغفلة، وذكر جوع يوم القيامة، وكسر شهوة الفرج المستولية بالشّبع، ودفع النّوم الذي يكلّ الطبع ويضيّع العمر ويفوت القيام والتهجد وتيسر المواظبة على الطاعة لخفة البدن والفراغ عن الاهتمام بالتحصيل والإعداد والأكل ودفع الأمراض الشاغلة عنها، فورد في الحديث: "المعدة بيت الداء والحمية رأس كلّ دواء". ►

ارسال التعليق

Top