• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قصص تربوية في العمل والعاملين والكسل والمتكاسلين

أسرة

قصص تربوية في العمل والعاملين والكسل والمتكاسلين
القصّة الخامسة "أخوهُ أعبدُ منه!!" رأى رسول الله (ص) رجلاُ يُلازم المسجد ملازمةً قلّما يُفارقه فيها، فهو دائمُ العبادة والصلاة في المسجد حتى كأنّه حمامته، (وحمامُ المسجد هو الذي يعيش ويُعشِّش هناك، فلا يترك مكانه لما يجده من طعامٍ حاضرٍ بما يلقيه روّاد الجسد للحمامِ من حبوب تقرّباً إلى الله تعالى). فلفتَ عكوفُ هذا الرجل في المسجد نظر النبي (ص)، فسأل أصحابه عنه، وعمّا إذا كان صاحب عائلة أم لا، فقالوا له: إنّ له عيالاً يا رسول الله!! فقال (ص): وكيفَ يعيشُ ويعيشون؟ أي مَن يقوم بأمرِه؟ فقيلَ له: إنّ له أخاً يعيله ويعيلُ عياله! فقال (ص): "أخوهُ أعبَدُ منه"!!   - الدروس المُستخلَصة: 1- روحُ هذه القصّة من روح القصّة التي سبقتها وإن اختلفت معها في بعض الجوانب، فالعمل في الإسلام عبادة، وكما أخطأ بعض المسلمين هناك في فهم معنى (العمل في سبيل الله).. أخطأ هنا المُلازمُ للمسجد في معنى (العبادة) ولم يعلم أنّ العبادة – كما في الحديث- سبعون جزءاً، أفضلُها طلب الحلال!! 2- لكلّ وقت.. فلا يصحّ أن يطغى وقتٌ فيغطِّي وقتاً آخر، فللعمل وقته، وللعبادة وقتها، وللعلاقات وقتها، وللّهو في غير محرّم وقته، وكلّها عبادة لأنّها تحقِّق توازن الشخصيّة، واعتدال الأمور. 3- "أخوهُ أعْبَدُ منه"، لأنّ أخاهُ لا يعمل فقط ليُعيل نفسه وعياله، بل يُعيل أخاه وعياله، وهو بالتأكيد يُصلِّي الصلوات الخمس، وبالتالي فالمقارنة بين الإثنين ليست بكمِّ الصلوات التي يُصلِّيها كلّ منهما، وإلا كان الملازمُ للمسجد أعْبَد، وإنّما بمقدار التوازن في شخصيّة كلّ منهما. 4- غالبا ما ننسى أنّ ورشة العمل يمكن أن تكون ساحة مسجد، وأنّ معهد الدراسة يمكن أن يكون محراباً للصلاة، وأنّ ميدان الإنتاج، ونفع الناس يمكن أن يكونا من أقرب المُقرّبات إلى الله تعالى، وإن يكونا صلاةً وعبادة.   القصة السادسة "إعْقَلْ.. وتوكَّلْ!!" يُروى أعرابيّاً دخل المسجد النبوي ليُصلِّي، وكانَ قد تركَ ناقته في خارج المسجد من دون عقل، (عقلَ الناقة: ربطها). ولمّا سأله النبي (ص) ما فعل بناقته، قال: تركتُها في خارجِ المسجد يا رسول الله! فسأله النبي (ص): وهل عقلتها؟! فقال الأعرابيّ: بل تركتها بدون عقل، واتّكلتُ على الله في حفظها. فقال النبي (ص) وهو يُعلِّمه التصرّف الصحيح: "إعْقَلْها وتوكَّل"!!   - الدروس المُستَخلَصة: 1- توكّل على الله تعالى شيءٌ حميد، ولكنّه قد يُفهَمُ خطأً من بعض الناس، فيتركون الأمور سائبة، أو من غير اتِّخاذ الإحتياطات اللازمة، ويقولون: توكّلنا على الله. النبي (ص) لا يعترف بـ(التوكّل) الذي هو (اتِّكال) أو (تواكل)، بل يريد للإنسان المسلم أن يُراعي الضوابط، فناقةٌ غير مربوطةٍ يعني ناقةً سائبةً مُهمَلةً يمكن أن تكون عرضةً للسرقة، أو للضياع. بمعنى أنّ التوكّل خطوةٌ لاحقةٌ، لابدّ أن يسبقها الإحتياطُ والتّحوّط والإجراءات اللازمة. 2- الذين يلجأون إلى الإستخارة هم من نوع هذا الأعرابي الذي يتركُ ناقته سائبة ويتوكّل على الله، فالذي لا يعمل عقله كمَن يتركُ ناقته بلا رباط، وكان الأجدر بالمُستخير أن يوازِن بين إيجابيّات العمل وسلبيّاته، فإن رجحت الإيجابيّات أخذَ بالعمل، وإن زادت السلبيات تركه، وإذا درسَ الموضوع، وخطّطَ له، وتشاورَ واستشارَ وأقدم، فليسأل الله التوفيق بعد أن يكون عمل ما بوسعهِ واتّكلَ على الله فيما هو خارجٌ عن الوسع.   القصّة السابعة "لو أضفتَ له شيئاً من القَطِران!!" وفي قصّةٍ مشابهةٍ من حيث المضمون: مرّ الإمام علي (ع) بأعرابي معهُ ناقةٌ جرباءُ، فقال (ع) للأعرابي صاحبها: ألا تداويها؟ قال الأعرابي: بلى يا مولاي، إنِّي أداويها. فقال (ع): بماذا؟ قال الأعرابي: بالدّعاء!! فقال أمير المؤمنين (ع): "ضَع مع الدعاء شيئاً من القَطِران"!!   - الدروس المُستخلَصة: 1- هذا الأعرابي كذاك الأعرابي يفهم (الدعاء) كما فهمَ صاحبهُ (التوكّل).. وتلك مشكلتنا مع المفاهيم الإسلامية، فعادةً ما نفهمها من جانبٍ أو بُعدٍ واحد، في حين أنّ للمفهوم أكثر من بُعدٍ يكشف سعتَهُ ومرونتهُ وآثاره.. فالدّعاء دون العمل إبطالٌ للعمل، والصحيح أنّه لابدّ أن يكون مع العمل، فالذين يدعون لا يتوقّفون عن العمل، إنّهم يعملون ويطلبون من الله العون والمدد وتهيئة ما لم يستطيعوا تهيئته وتحقيقه، فمنهم العمل ومن الله التوفيق والبركة. 2- الدعاءُ وحدهُ ليس بكافٍ، فلو بقي هذا الأعرابي يدعو من دون أن يُعالج أو يُداوي بعيره الأجرب بشيءٍ من القَطِران (النّفط الأسود أو شيء يُعالج به الجَرَب)، لما شفيَ بعيره، لا لأنّ الله لا يريد أن يستجيب له دعاءه، بل لأنّه تعالى يريده أن يستفيد من الأسباب المُتاحة بين يديه.   القصة الثامنة "غرسُوا فأكَلْنا.. ونغرسُ فيأكلُون!!" مرّ (كسرى أنوشروان) ملك الفرس في حينه، على شيخ طاعنٍ في السنِّ، وهو يغرسُ شُجيرات الزيتون، فتعجّب من طول أمله، فدنا منه وسأله: - أيها الشيخُ! ليس هذا أوان غرس الزيتون، لأنّه شجرٌ بطيء النِّماء والإثمار، وأنتَ شيخٌ هرم؟ فقال الشّيخ: أيُّها الملك! قد غرسَ مَن قبلنا فأكلنا، ونغرس ليأكل مَن بعدنا!! فأعطاهُ مبلغاً من المال. فقال الشيخ: أرأيت غرسي، فما أسرعَ ما أثمر؟! فأعطاهُ الملكُ مبلغاً آخر. فقال الشيخ: أيُّها الملك! كلُّ شجرةٍ تثمرُ في العام مرّة، وشجري أثمَر في لحظةٍ مرّتين! فوهبهُ جائزةً ثالثة، وقال لأصحابه: إنصرفوا، فإذا وقفنا لم يكفِ الشيخ ما في خزائِننا!   - الدروس المُستخلَصة: 1- الحياةُ أجيالٌ ودوراتٌ إنتاجية، وهي حلقات متتابعة، جيلٌ يُسلِّمُ الأمانة إلى جيل، ولو توقّف العطاء في إحدى الحلقات لارتبكت دورةُ العطاء الإنساني، واختلّ ميزانُ الإنتاج، فالمسؤولية، كما وصفها الشيخ الهرمُ غارسُ الزيتون: السابقون عملوا ما عليهم، وقد انتفعَ اللاحقون بإنتاجهم، واللاحقون يعملون ويزرعون وينتجون لينتفعوا وينفعلوا مَن بعدهُم، وهكذا تتواصل الحضارات، وتُتناقل التجارب، ويتوارث الأجيالُ المسؤوليّات. 2- هذا في غرس الأشجار المادِّية، أمّا غرس الأشجار الفكرية والقيميّة فقد تكون أسرع ثمراً وأكبر عطاء، فحكمة الشيخ أثمرت تكريماً لوعيه وعقله، ورُبّ بذرةٍ أنبتت بعد حين، ولكلِّ غارس شجرة نصيب من ثمرها، أو من أجرها، لأنّه ما أكلَ منها من إنسانٍ أو طيرٍ أو حيوانٍ إلّا وكان لغارسها في ذلك أجر.

ارسال التعليق

Top