◄يتحدّث القرآن الكريم عن علاقة الإنسان بالإنسان، ويُثقِّفه، ويُعلِّمه أُسس التقييم، وأساليب التعامل والتعايش والعلاقة مع الآخر.. القرآن علَّمَ الإنسان أنّه إنسان.. تتجلّى فيه معان وقِيَم إنسانية، هي قيمة حياته ووجوده، والناس سواسية في الإنسانية، فأصل المنشأ الإنساني واحد.. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) (النِّساء/ 1). وكرّم الله هذا الإنسان وعظّمه وثبّت أرقى المبادئ الأخلاقية والقانونية لبيان حقّ هذا الإنسان وحماية إنسانيته من اعتداء الآخرين عليها، ومن اعتداء نفسه على إنسانيته.. وبعبارة أُخرى توفير الحماية للإنسان من ظلم أخيه الإنسان، ومن ظلم نفسه لنفسه. يتجلّى أسمى بيان لتكريم الإنسان، واحترام شخصيته في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء/ 70). وفي تزاحم الذوات، وصراع الأنا والمصالح، تبرز ظاهرة استعلاء البعض من بني الإنسان على أخيه الإنسان، فيشعر بالعلوّ والغرور والكبرياء الأجوف. فتتكوّن في نفسه رُؤى وتصوّرات ونوازع خاطئة يرى نفسه فيها أعظم من غيره، بل قد يرى البعض من هؤلاء أنّ الوجود ملخّصاً بذاته.. وتتعاظم تلك الظاهرة المرضية والحالة الانحرافية عند هذا الصِّنف من المرضى، عندما يرى نفسه متفوِّقاً على غيره بالسلطة أو المال أو الجمال أو الصحّة أو المكانة العلمية أو الاجتماعية، بل لا يرى أنّ غيره يستحقّ أن يُحترم أو يُكرّم، أو يُعامل كإنسان له من الحقوق والكرامة ما يُعادله ويُساويه هو.. واضعاً نفسه ضمن مصاديق وصف القرآن للذات الطاغية المتكبِّر بغير حقّ: (إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6-7). إنّ هذا الطغيان يتجسّد سلوكاً عدوانياً ضدّ الآخرين، يتمثّل في احتقار الآخر والاستخفاف به، والتهوين من شأنه، وأهميّة ما يصدر عنه.. لذا يُعبِّر عن ذلك بالسخرية والغمز واللّمز والهمز والغيبة. والقرآن الحريص على حفظ كرامة الإنسان وقيمته الإنسانية، واجه تلك الظواهر السلوكية والأخلاقية العدوانية.. واجههها بالرفض والتحريم.. واعتبرها من كبائر الآثام، ومساوئ الأخلاق التي جاء الوحي ليُطهِّر المجتمع منها، ويُحصِّن الإنسان المُسلِم من الإصابة بها.. لذا نجده بعد أن ينهى عن تلك الأخلاقية المنحطّة.. يذكِّر الإنسان بوحدة النوع وأصل المنشأ، وأنّ الاستخفاف بالآخرين والاستهزاء بهم عمل خاطئ، وتجاوز على إنسانية الإنسان.. لنقرأ النصّ القرآني، ولننصت لما يُتلى، ولنفهم ولنعي تلك الثقافة الأخلاقية التي سعى القرآن الكريم لتربية المجتمع عليها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ* يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 11-13). نزلت تلك الآيات في حقّ الظواهر الاجتماعية لتُعالجها، وتُطهِّر المجتمع من آثارها.. فإنّ آيات القرآن كان بعضه ينزل بسبب وجود بعض الحالات السيِّئة في المجتمع ليُعالجها، ويُوضِّح موقف الشريعة منها، ويضع الحلول الناجعة لها.. وفي موضع آخر يستنكر القرآن أخلاقية أُولئك الذين يهمزون الناس ويلمزونهم، لغرض الحطّ من شخصياتهم، والنيل منهم.. ويجعل لهم الويل والعذاب.. (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ* الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) (الهمزة/ 1-3). وفي مواضع أُخرى يستعرض نماذج من سلوكية الساخرين والمستهزئين بالناس بدافع التعالي والغرور والعُجب وعبادة الذات.. (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة/ 212). ويعرض لنا القرآن الكريم صُوَراً من سلوكية الساخرين والمستهزئين بالناس بدافع الغرور والاستعلاء من مساحات تاريخية شتّى.. نقرأ ذلك من خطابه للنبيّ محمّد (ص). (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ) (التوبة/ 79) وهكذا يتحدّث القرآن عن ظاهرة التعالي على الآخرين، وظاهرة السخرية منهم والاستهزاء بهم.. وهمزهم ولمزهم.. ويعتبرها من أسوأ الظواهر الأخلاقية التي يجب استئصالها من المجتمع، حماية لكرامة الإنسان وشخصيته الإنسانية. وللغرض ذاته، حرّم القرآن الغيبة والتجسّس على الآخرين؛ لكشف عيوبهم ونشرها في المجتمع؛ لإسقاط شخصياتهم، والنيل منهم.. (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات/ 12). وخاطب الآخرين بأنّ مَن تسخرون منهم عسى أن يكونوا خيراً منكم. نهى عن التنابز بالألقاب، وهو أن يذكر شخص شخصاً آخر بلقبٍ يكرهه فيسيئ لشخصيته ومكانته وينتقص منه.. وفي هذه الآية ينهى القرآن عن اللمز.. عن ذكر عيوب الناس وتعييرهم للحطِّ من مكانتهم.. واعتبر هذا اللمز.. هو لمز للنفس أيضاً.. لأنّه سيُقابل بالمثل وستشيع في المجتمع هذه السلوكية السيِّئة.. ويستمرّ في النهي عن التجسّس.. وهو تتبّع هفوات الناس ونشرها والتشهير بها، كما نهى عن الظنّ السيِّئ بالآخرين، والتعامل معهم على أساس هذا الظنّ، فإنّه إثم وسلوك مرفوض.. ولحفظ كرامة الإنسان، وحماية شخصيته، ينهى القرآن عن الغيبة، وهي ذكر الإنسان في غيبته بشيء يكرهه، وشبّهها بأكل لحم الإنسان الميِّت لكراهتها، وقذارة تناولها.. والآية تُثبِّت أنّ الناس خُلِقوا من ذكرٍ وأُنثى، فهم سواء في الإنسانية، وأكرمهم عند الله أتقاهم.. إنّ ما اشتملت عليه هذه الآية من قِيَم أخلاقية وسلوكية لحفظ كرامة الإنسان، لهي من أرفع القِيَم والتعليمات التربوية لبناء مجتمع يُحترَم فيه الإنسان وتُصان فيه كرامته وحقوقه.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق