• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قَدْر «ليلة القدر»

محمد رشيد العويد

قَدْر «ليلة القدر»
◄من أصابها سعد بخيرات العمر وحظي بالتقدير والرضا والسرور "سرحان" عامل مضى عليه سنة دون عمل، ولم يكن له دخل سوى دُريهمات كان يحصل عليها لقاء أعمال متفرقة لا تتجاوز عدد أصابع اليدين كل شهر. تراكمت الديون على سرحان، وزادت أعباؤه المالية، وضاقت عليه الدنيا.. فما عاد يجد فرجاً لما هو فيه. مرّت الساعات ثقيلة، يفكر في أولاده الذين يحتاجون كساءً جديداً للعيد وأطعمة وحلويات لا يملك ثمنها. كان ينظر إلى زوجته الصابرة وعيناه تسألانها: هل من فرج قريب؟ بينما هو كذلك إذ سمعت أذناه طرقاً على الباب.. هل يتوهم سماع هذه الطرقات أم أنها حقيقة وليست وهماً؟ زادت الطرقات، وتأكد سرحان أنها على باب بيته وليست على باب جيرانه. ولكن من يكون الطارق ولَمْ يسأل عنه أحد طوال شهور مضت؟! قام إلى الباب يفتحه وقلبه مفعم بالأمل مستبشر بالخير. فتح الباب فوجد شخصاً يسأله: أهذا بيت سرحان الآدمي؟ أجاب: نعم. ناوله رسالة مغلقة ومضى. كانت الرسالة من إحدى الشركات التي تقدم إليها بطلب للعمل فيها وتتضمن تحديد موعد للمقابلة. فرح وإستبشر، وفرحت زوجته معه وإستبشرت، وعاشا ساعات من الأمل حتى حان موعد المقابلة. في المقابلة أجاب عن جميع الأسئلة التي وُجهت إليه إجابات موفقة، وبشره مدير شؤون الموظفين في الشركة بقبوله للوظيفة الشاغرة بمرتب جيِّد وقال له: نريدك غداً أن تعمل يوماً كاملاً وسنعطيك مكافأة له تعادل مرتب سنة!. لم يصدق سرحان ما سمع يعمل يوم غد فيتقاضى عنه مرتب سنة؟ مرتب إثني عشر شهراً لقاء عمل يوم واحد؟! إنّه مبلغ كبير يكفي لسد جميع ديونه، ولشراء كساء له ولزوجته وأولاده، والحصول على مؤنة عام بحاله!. ما هذا الذي لا يكاد يصدقه؟ أهو في حلم أم أنها ليلة القدر؟ نقف هنا بعد هذه الحكاية القصيرة لنقول: بل إن ليلة القدر تحمل إلى من يحييها أعظم مما حمله كلام مدير شؤون الموظفين إلى سرحان الآدمي، فإذا كانت مرتبات اثني عشر شهر قد حملت تلك البشارات جميعها إلى سرحان، فإن ليلة القدر تحمل إلى من يسعد بها خيرات ألف شهر... خيرات عمر، فالألف شهر تعادل أكثر من ثلاثة وثمانين عاماً، فهل يزهد في قيامها مسلم؟ وهل ينصرف عنها من يرجو رحمة ربه ويطمع في عظيم أجره وثوابه؟!.   -        فضلُ الليلة: ألم يشعر صاحبنا سرحان، حين أعلمته الشركة بأنّه سيحصل على راتب سنة كاملة لقاء عمل يوم واحد، بالتقدير والرضا والسرور؟ كذلك يشعر، بل بأضعافه، من يحظى بليلة القدر. يقول القرطبي: قيل إنما سميت بذلك لعظمها وقَدْرها وشرفها، ومن قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة، قاله الزهري وغيره. وقيل: سُميت بذلك لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً، وثواباً جزيلاً. وقال أبوبكر الوراق: سُميت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا ذكر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها. وقيل: سُميت بذلك لانّه "سبحانه" أنزل فيها كتاباً ذا قدر، على رسول ذي قدر، لأنّ الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة، وقال سهيل: سُميت بذلك لأنّ الله تعالى قدّر فيها الرحمة على المؤمنين. لقد قال سبحانه عن هذه الليلة: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر/ 3)، فبيّن فضلها وعظمها، وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل، وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر. وقال كثير من المفسرين: العمل فيها خير من العمل من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقال أبو العالية: ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون فيه ليلة القدر. وقيل: عني بألف شهر جميع الدهر، لأنّ العرب تذكر الألف في غاية الأشياء، كما قال تعالى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) (البقرة/ 96)، يعني جميع الدهر. وقيل: إنّ العابد كان فيما مضى لا يُسمّى عابداً حتى يعبد الله ألف شهر "ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر"، فجعل الله تعالى لأمة محمد (ص) عبادة ليلة خيراً من ألف شهر كانوا يعبدون الله فيها. وقال أبو بكر الوراق: كان مُلك سليمان خمسمائة شهر، ومُلك ذي القرنين خمسمائة شهر فصار ملكهما ألف شهر، فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيراً من ملكهما. وقال إبن مسعود: إنّ النبي (ص) ذكر رجلاً من بني إسرائيل ليس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، فنزلت (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) الآية (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، التي لبس فيها الرجل سلاحه في سبيل الله، ونحوه عن إبن عباس. وقال وهب بن منبه: إن ذلك الرجل كان مسلماً، وإن أمه جعلته نذراً لله، وكان من قرية يعبدون الأصنام، وكان يسكن قريباً منها، فجعل يغزوهم وحده، ويقتل ويسبي ويجاهد، وكان لا يلقاهم إلا بلحيي بعير، وكان إذا قاتلهم وقاتلوه وعطش انفجر له من اللحيين ماء عذب، فيشرب منه. وكان قد أعطي قوة في البطش، فلا يوجعه حديد ولا غيره، وكان إسمه شمسون. وقال علي وعروة –رضي الله عنهما –: ذكر النبي (ص) أربعة من بني إسرائيل، فقال: "عبدوا الله ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين"، فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون، فعجب أصحاب النبي (ص) من ذلك، فأتاه جبريل فقال: يا محمد، عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين؟، فقد أنزل الله عليك خيراً من ذلك، ثم قرأ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر/ 1)، فسُرّ بذلك رسول الله (ص). وقال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره: سمعت من أثق به يقول: إنّ رسول الله (ص) أري أعمار الأمم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر.   -        نزول القرآن فيها: على أي حال، يكفي هذه الليلة أن تم فيها ذلك الحدث الكوني العظيم، حدث القرآن والوحي والرسالة، وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود، وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد، وهي خير من ألف شهر. والعد لا يفيد التحديد في مثل هذه المواضع من القرآن، إنما هو يفيد التكثير. والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد إنقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات؟ إنها ليلة عظيمة باختيار الله إياها لبدء تنزيل هذا القرآن، وإضافة هذا النور على الوجود كله، وإسباغ السلام الذي فاض به من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية، وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير، وتنزيل الملائكة وجبريل (ع) خاصة، بإذن ربهم، ومعهم هذا القرآن – باعتبار جنسه الذي نزل في هذه الليلة – وإنتشارهم فيما بين السماء والأرض في هذا المهرجان الكوني الذي تصوره كلمات السورة تصويراً عجيباً. وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى تلك الليلة المجيدة السعيدة، ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة، ونتدبر حقيقة الأمر الذي تم فيها، ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان، وفي واقع الأرض، وفي تصورات القلوب والعقول... فإننا نرى أمراً عظيماً حقاً، وندرك طرفاً من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الليلة (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (القدر/ 2). لقد فُرق فيها كل أمر حكيم، وقد وُضعت فيها قيم وأسس وموازين، وقد قُررت فيها أقدار أكبر من أقدار الأفراد، أقدار أمم ودول وشعوب. بل أكثر وأعظم... أقدار حقائق وأوضاع وقلوب!. ولقد غفلت البشرية – لجهالتها ونكد طالعها – عن قدر ليلة القدر، وعن حقيقة ذلك الحدث، وعظمة هذا الأمر. وهي منذ أن جهلت هذا وأغفلته فقدت أسعد وأجمل آلاء عليها، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي – سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع – الذي وهبها إياه الإسلام. ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارات والعمارة، فهي شقية، شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش!. لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى. وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب. فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء، وطلاقة الرفوة إلى عليين.   -        يجب ألا ننسى: ونحن المؤمنين مأمورون ألا ننسى ولا نغفل هذه الذكرى، وقد جعل لنا نبينا (ص) سبيلاً هيناً ليناً لاستحياء هذه الذكرى في أرواحنا لتظل موصولة بها أبداً، موصولة كذلك بالحدث الكوني الذي كان فيها، وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كان عام، ومن تحريها، والتطلع إليها في الليالي العشر الأخيرة من رمضان. وفي الصحيحين: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان"، وفي الصحيحين كذلك: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". والإسلام ليس شكليات ظاهرية، ومن ثمّ قال رسول الله (ص): عن القيام في هذه الليلة: أن يكون "إيماناً وإحتساباً"، وذلك ليكون هذا القيام إستحياء للمعاني الكبيرة التي إشتملت عليها هذه الليلة.. "إيماناً" ليكون تجرداً لله وخلوصاً "وإحتساباً"... ومن ثمّ تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام.. ترتبط بذلك المعنى الذي نزل به القرآن. والمنهج الإسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير، ويجعل العبادة وسيلة لإستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف عند حدود التفكير. وقد ثبت أنّ هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك، وأنّ الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق دون مساندة العبادة، وعن غير طريقها، لا يقر هذه الحقائق، ولا يحركها حركة دافعة في حياة الفرد ولا في حياة الجماعة. وهذا الربط بين ذكرى ليلة القدرة وبين القيام فيها إيماناً واحتساباً، هو طرف من هذا المنهج الناجح القويم.►

ارسال التعليق

Top