• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كلمات الكاميرا الخفيّة

أسرة

كلمات الكاميرا الخفيّة
في بلدٍ ما، كانت الكاميرا الخفيّة ترصدُ مشاهد مثيرة للضحك، ففي إحدى المرّات وُضِعت ماسحةُ أحذية قبالة أحد المصارف الكبيرة في البلد، وقد أُشبعت الماسحة بمادة صمغيّة حتى راحت أحذية الداخلين إلى المصرف (البنك) تعلق عند أوّل وطأة أو دعسة، ثمّ يروح العالق المتورِّط يحاول انتزاع قدميه من الماسحة فلا يفلح، فما أن يضغط باليُسرى ليرفع اليمنى حتى تعلق اليسرى، وهكذا.. هو منزعج والناس الذين يشاهدون منظره أو علقته يضحكون.. كثيرون واقعوا في المصيدة، وكثيرون أثاروا ضحك المشاهدين وتعليقاتهم الساخرة، ذلك أنّهم كانوا يرون أناساً متورِّطين ورطة حقيقيّة وكأنّهم غير عابئين بالفخ الصمغيّ الذي نُصب لهم، ذلك أنّ أذهانهم كانت مصوّبة نحو حسابات البنك الذين كانوا يهمّون بالدخول إليه في أسرع وقت، وكانوا لا يتخلّصون من تلك (العلقة) إلا بجهد جهيد ومحاولات مثيرة للشفقة إضافة إلى إثارتها للضحك والتندّر. زبونٌ وحيد من بين زبائن كثر عمد، حينما علقت قدماه أو حذاؤه بالماسحة المصمّغة، إلى الشكوى.. ذهب من فوره إلى شرطي البنك الذي كان يراقب ما يجري وكأنّه غير معني به – بحسب الإتفاق مع صاحب الكاميرا الخفية بالطبع – فطلب إليه أن يتدخل لرفع الماسحة التي تضايق الزبائن وتزعجهم، وبالفعل وبسبب وساطته ومسعاه الحميد رفُعت واستبدلت بأخرى لا صمغ فيها ليعود الوضع سوياً كما كان. وفي بلدٍ آخر، كانت عيونُ الكاميرا الخفية، وتبعاً لها عيونُ المشاهدين، ترصد عن كثب شرطي مرور يقف في أشد ساحات المدينة ازدحاماً، وفي أخنق أوقات النهار كثافة مرورية، وفي أشد الساعات حرارة، حيث كان الوقت صيفاً والإنتظار لا يطاق. كان الشرطي الذي يقف في مفترق الطرق ينظِّم السير بأعصاب باردة لا تتناسب وحرارة الطقس، وبدرجة عالية من الحرفية المرورية، فكان لا يدع سيارة من السيارات تتجاوز الخط المرسوم للوقوف، بل كان يطالب السائق المتجاوز الذي يتعدّى الخط إلى الرجوع إلى الوراء قليلاً، وهكذا حتى تعبت الكاميرا الخفيّة وتعب السائقون ولم يتعب الشرطي الذي لم يكن يقيناً يعلم أنّه مراقب ومرصود وتحت رحمة كاميرا خفيّة، ولربّما لم يخطر على باله في أثناء انشغاله في أداء واجبه أنّه موضع اختبار. ولعلّ البعض كان ينتقده على حرفيّته وحِرفيّته ويطالبه بشيء من المرونة، إلا أنّه لا شك يضرب مثلاً لرجل النظام الملتزم بالنظام. وفي بلدٍ ثالث، تصيّدت الكاميراً الخفيّة مشهداً لسائق سيارة أجرة (تاكسي) وهو يرتكب مخالفة مرورية، وحينما دنا منه شرطي المرور ليحاسبه، كان قد دسّ يده في جيبه ليقدِّم إلى الشرطي رشوة، اقترب الشرطي من نافذة السيارة، وما هي إلا لحظات حتى أعطى للسائق إشارة مواصلة السير.. والكاميرا تسجِّل.. وربما كانت تبكي. ما الذي دفع زبون البنك الذي كان يهمّ بالدخول من بوّابة المصرف أن يطالب الشرطي المسؤول برفع الماسحة المصمّغة، فيما تجاهلها الآخرون على الرغم ممّا لاقوه من إزعاجاتها؟ وما الذي حمل شرطي المرور في ساعة من ساعات القيظ اللاهبة، والمختنقة مرورياً على أن يؤدي مهمّته بإخلاص ودقّة عاليين؟ وما الذي جعل الشرطي الآخر يتساهل في مخالفة مرورية، في حين كان يفترض به أن لا يسامح السائق المتجاوز مرّتين، مرّة حين خالف واخترق الإشارة، ومرّة حين دفع الرشوة للشرطي حتى يغضّ النظر عنه؟ في قصة المصرف.. الزبائن زبائن، ولكن لماذا اختلف الزبون الأخير عن الزبائن السابقين؟ لماذا أثار مَن سبقه ضحكَ المشاهدين، فيما أثار هو إعجابهم وتقديرهم وتثمينهم لموقفه؟ ولماذا شرطيّان مروريّان يتصرّفان بموقفين متعاكسين، أحدهما يلتزم، والثاني يُسهم في الجريمة، أو قل في الخطأ؟ شيء ما في داخل كل منهم كان يستدعيهم للقيام بما قاموا به.. زبائن كثيرون، وربّما رجالُ شرطةٍ كثيرون، لا يقومون بما قام به الزبون الحريص والشرطي الغيور، وربّما شرطة كثيرون أيضاً يقومون بما قام به الشرطي المتواطئ مع السائق المخالف. كان يمكن لزبون المصرف أسوةً بزملائه الذين لم يكلِّفوا أنفسهم عناء رفع الماسحة أو المطالبة برفعها، أن يكون واحداً منهم لا يختلف عنهم بشيء، وبالتالي فإنّه كما تورّط في علقة الماسحة المشبعة بالصمغ، يدع الآخرين يعلقون كما علق على طريقة: عليّ وعلى أعدائي! كما كان يمكن لشرطي المرور الأوّل أن يكون شرطياً عادياً كسائر الشرطة غير المنضبطين، فلا يلفت النظر والإنتباه والإعجاب، بل وربما لو تغافل أو تساهل لتعرّض للنقد والتهكّم من بعض المشاهدين لتقاعسه عن أداء وظيفته، وربّما كان يجد لنفسه العذر، في شدّة الإزدحام والحرارة، أنّ التساهل مبرَّر، وأنّه ليس هناك مَن يراقب أو يحاسب في تلك الساعة. وكان يمكن للشرطي الثاني أن لا يكون من صنف السائق المرتكب للمخالفة فيرتكب هو الآخر مخالفة أشدّ وأنكى، فهو حينما تغافل عن الخطأ مقابل الرشوة، جعل احتمال تكرار المخالفة في مقابل شيء زهيد من المال ممكناً، كان يمكن له أن ينتزع إعجابنا كما فعل صاحبه، لكنه استثار استهجاننا كمشاهدين ومراقبين وحُكّام أيضاً. إنّه – في المثالين الأوّلين – شيء يمكن أن نصطلح عليه بــ(الحرص) أو (الغيرة) أو (الإخلاص) أو (الشعور بالمسؤولية) أو الإهتمام بالروح الغيرية، وأياً ما شئت فسمّه، فيما يهمّنا هنا هو كيف يكون هذا الشيء ملكةً دافعةً محرّكة ومحرّضة، أو كيف يكون ضميراً نقيّاً، وازعاً نبيلاً، وتصرّفاً حضارياً؟ كيف يمكن تحويل ما تعلّمه الشرطي أو الشرطيان أثناء انتسابهما للخدمة إلى (ثقافة)، كما أن ما فعله الزبون الذي أنقذ مَن بعده من ورطة الماسحة (العلقة) ثقافةً عامّة وليست اجتهاداً شخصياً، أو مبادرة فرديّة؟ ولربّما هناك شرطة يعرفون واجبهم لكنهم (يتساهلون)، وربّما هناك زبائن آخرون يدركون أنّ الواجب يقتضي أن لا يهملوا أمر الماسحة، لكنهم تساهلوا. إنّنا هنا نبحث عن جواب لسؤال كيف يمكن نقل أو تحويل الخزين الثقافي إلى طاقة ثقافية، وإلى سلوك حضاري؟ كيف يمكن لثقافتنا المجرّدة أن تكون ثقافة عمليّة؟ هذا هو السؤال.

ارسال التعليق

Top