أسمى المقامات الإنسانية الشامخة هو عند لقاء الله تعالى، ولا سعادة أكبر للمؤمن من التقرُّب إلى الله تعالى صاحب الكمال المحض، والقدرة اللامحدودة، والعلم المطلق، ولا راحة أعلى من اليقين بأنّ الإنسان لا محالة راجعٌ إلى ربٍّ ودودٍ رحيم. وقد بشّر عزّوجلّ المؤمنين بلقائه، فقال: (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (البقرة/ 223). ووعد الذين يرجون لقاءه بأنّ لهم ما يأملون (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت/ 5). ووصف تعالى المكذّبين بلقائه بأنّهم خاسرون وغير مهتدين (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) (يونس/ 45). وأنّ الكافرين بلقائه هم في الحقيقة يائسون من رحمة الله، ولهم عذابٌ أليم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (العنكبوت/ 23). وأنّه تعالى سوف يكلهم إلى أنفسهم ويذرهم في عماهم (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (يونس/ 11). أمّا أهل الإيمان والخشوع فإنّهم على يقينٍ بلقاء ربّهم وأنّهم إليه راجعون (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 45-46). بل وإنّ قلوبهم وجلةٌ وفرحةٌ برجوعهم إليه سبحانه تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون/ 60). لأنّهم على يقين أنّ الله تعالى لم يخلقهم عبثاً (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون/ 115). بل يعلمون علم اليقين أنّه اصطنعهم لنفسه (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه/ 41). لذا تكون نفوس المؤمنين مطمئنةً بالرجوع إلى ربِّها (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق/ 8)، راضيةً بالدخول في عباده الصالحين والوفود إلى جنّة لقائه (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 27-30).
لقاء الله تعالى على نحوين، لقاءٌ في الدنيا ولقاءٌ في يوم القيامة عند البعث والحساب. والكلام هنا يتمحور حول لقاء الله في الدنيا قبل الآخرة. وليس المقصود بلقاء الحقّ تعالى اللقاء الحسي ورؤيته تعالى بالبصر المادّي، لأنّ الله تعالى ليس بجسم، ولا يحدّه مكان، ولا يُرى بالعين، فإنّه: (لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام/ 103). بل المراد به اللقاء المعنوي، بمعنى حضوره تعالى الدائم في حياتنا، وعدم الغفلة عنه أبداً، والتوجّه إليه باستمرار، ومشاهدة آياته وآثار قدرته تعالى في كلّ شيءٍ. فلا نعبد غيره، ولا ندعو سواه، ولا نطلب حوائجنا إلّا منه. فالإنسان عندما يدرك أنّ الله تعالى خالقه، ومالك كلّ شيء، وبيده الأمر كلّه، وهو في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو ربّ العالمين، فمن الطبيعي أن يتوجّه إليه بالعبودية له والتسليم.
الوصول إلى هذه المنزلة الإنسانية الرفيعة، من لقاء الحقّ والحضور في محضره إنّما يصبح ميسوراً في حالةٍ واحدةٍ فقط، وهي عندما يصبح الله تعالى حاضراً دائماً في حياة الإنسان، فيرى الإنسان خالقه حاضراً وموجوداً في جميع شؤون حياته، ويشاهد نفسه دائماً في مشهد الله العظيم وفي ساحة حسابه يوم القيامة. وكيف لا يكون ذلك وهو تعالى معه أينما ولّى وجهه: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد/ 4). وهو أقرب إليه من حبل الوريد (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق/ 16). وهو شاهدٌ على كلّ حركة يقوم بها وكلّ لفظة ينطق بها، يقول تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) (يونس/ 61).
فالإنسان إذا أراد أن يحصل على مقعد صدقٍ عند الله، ينبغي له في البداية أن يرى الله حاضراً وناظراً إليه في جميع شؤونه، ثمّ بعد ذلك يؤدّي على أساس هذا الشهود جميع الأعمال خالصةً لوجه الله. فممّا أوصى به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أبا ذر (رضي الله عنه) أن قال له: «يا أبا ذر إنّك منّا أهل البيت، وإنّي موصيك بوصيّة فاحفظها، فإنّها جامعة لطُرق الخير وسُبله، فإنّك إن حفظتها كان لك بها كفلان، يا أبا ذر اعبد الله كأنّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك، واعلم أنّ أوّل عبادة الله المعرفة به». وهذه الحالة تحصل للإنسان في هذه الدنيا نتيجة الطهر والتقوى والعبادة وتهذيب النفس. وقد سأل رجلٌ يقال له ذعلب أمير المؤمنين (عليه السلام): هل رأيت ربّك؟ قال (عليه السلام): «ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربّاً لم أره». فقال: يا أمير المؤمنين: كيف رأيته؟ قال (عليه السلام): «ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق