• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كيف نفهم واقعنا السياسي المعاصر؟

عبدالعزيز القاسم

كيف نفهم واقعنا السياسي المعاصر؟

 

بداية لابدّ من أن نؤكد أنّ العالم الواقعي المحيط بنا في غاية التعقيد، بل إنّ الإنسان في ذاته كائن معقّد التركيب يصعب الإبحار في عقله لفهم دوافع سلوكه ومحدّداته، ومن ثمّ فإن محاولة فهم الواقع فهماً سياسياً تستوجب الإقرار بأننا لن نستطيع الوصول إلى الحقيقة كاملة، ولن نستطيع الادعاء بأننا قد قلنا القول الفصل في أي موضوع من الموضوعات، أو أيّة قضية من القضايا. ولفهم الواقع السياسي أو أي من ظواهره يجب في البداية تقديم مجموعة من الأسس العامة ثمّ ننطلق للتركيز على حالة محدّدة نتّخذها نموذجاً للإجابة عن هذا السؤال المتعلق بكيفية فهم الواقع السياسي المعاصر، وأهم هذه الأسس العامة لفهم الواقع ما يلي: 1- ضرورة ربط أيّة ظاهرة واقعية نريد فهمها وتحليلها بالإطار الزماني الذي وجدت فيه هذه الظاهرة، ففهم أزمة جنوب السودان يستلزم الإلمام بالتطور التاريخي لهذه الأزمة، وبذورها الأولى وكيف نشأت، وفي أي ظروف تطوّرت. 2- ضرورة وضع الظاهرة موضع البحث في إطارها المكاني؛ أي تحديد البيئة المكانية للظاهرة، وتحديد تشابكات هذه الظاهرة في هذا الإطار المكاني. 3- ضرورة الإلمام بالتداخلات الموضوعية للظاهرة، فأزمة العنف السياسي في العالم العربي الآن ليست قضية إرهاب أو تطرّف ديني فحسب، بل إنها قضية تتداخل فيها مجالات الاقتصاد والتعليم والسياسة والقانون والدين؛ أي أنها ظاهرة تتداخل فيها مجالات الاقتصاد والتعليم والسياسة والقانون وعلم أصول الفقه وعلم التفسير وعلم الحديث.. إلخ. أي أنها ظاهرة تتداخل في تشكيلها علوم مختلفة، ولهذا لابدّ من تحديد الأوزان النسبية لهذه التداخلات الموضوعية، ومن ثمّ دراستها دراسة معمقة معزولة حول الموضوع السياسي. 4- ضرورة الإلمام بعالم غيب الظاهرة، لأن لكل ظاهرة عالم الغيب الخاص بها أو ماورائياتها؛ بمعنى أن هناك العديد من الأبعاد الكامنة غير المرئية في هذه الظاهرة التي لا يكفي الوصول إليها بسهولة لأنّها تشكل عالم الغيب الخاص بها، الكامن في ما وراءها، فلكل ظاهرة عالم الغيب الخاص بها الذي يمثل المفتاح الذي من خلاله يتم الدخول إلى هذه الظاهرة مباشرة من أقرب الأبواب إلى مركزها، ومن أقرب الطرق إلى جوهر حقيقتها. 5- ضرورة الإلمام بجدلية الداخلي والخارجي، لأنّه لا توجد أيّة ظاهرة من الظواهر السياسية في الواقع المعاصر لا يتداخل فيها الداخل مع الخارج، حتى وإن تعلق الأمر بقضايا سياسية على مستوى محلي ضيق. فالخارج موجود في كل الجزئيات، حاضر سواء بصورة واعية أو غير واعية، متعمدة أو تلقائية. 6- ضرورة الإلمام بجدلية الخاص والعام؛ أي أن كل ظاهرة سياسية فيها مكون شخصي خاص يتعلق بالأطراف المتصارعة فيها أو حولها، ومن ثمّ لا يمكن الفصل بين الخاص والعام، وأو بين العنصر الإنساني والعنصر الاجتماعي، أو بين الفرد والدولة. فالدولة يعبّر عنها فرد، والسياسة يقرّرها في النهاية فرد. ولكن ينبغي عدم الوقوع في فخ شخصنة الأحداث، أو الإخلال بالأوزان النسبية للعناصر المكوّنة لأيّة ظاهرة من الظواهر، فقد يكون للعنصر الشخصي مجرد نسبة ضئيلة في بعض الأحيان، وقد يكوّن جزءاً أصيلاً فيها في أحيان أخرى. وحتى تكتمل الإجابة عن هذا السؤال المتعلق بكيفية فهم الواقع سنضرب مثلاً بواحد من أهم الموضوعات المطروحة بقوة على الساحة العربية والإسلامية المعاصرة؛ وهو موضوع الإصلاح السياسي، وسنرى من خلال مقاربة هذا الموضوع كيف يمكن الوصول إلى فهم أفضل لظاهرة واقعية معاشة، وذلك من خلال التركيز على المفاصل الموضوعية التالية: أ- ما هي النقطة المرجعية للإصلاح تاريخياً؟ أي على أي نموذج سيتمّ الإصلاح؟ هل يكون الإصلاح بالعودة إلى الأصول التي تمّ التخلي عنها أم إصلاح بالتخلي عن تلك الأصول؟ أي ما هو الإطار الزماني للإصلاح؟ لأنّ الإصلاح في جوهره يعني أن هناك حالة فاسدة أو غير سوية، فمتى ظهرت هذه الحالة؟ وماذا كان قبلها؟ ومنذ متى بدأ الفساد يدب في الواقع العربي؟ وما هي أسس الفساد الحادث؟ وكيف تطوّرت حالة الفساد هذه؟ وما هي محطاتها الكبرى؟ وكيف يمكن فهم الوضع الحالي حتى نسطيع تشخيص العلاج؟ ب- إصلاح من؟ أي من هو المقصود بالإصلاح؟ هل هو العالم العربي؟ أم العالم الإسلامي؟ أم دولة من الدول؟ وهنا يثور السؤال لماذا طرح موضوع الشرق الأوسط الكبير كإطار للإصلاح؟ وهل هذا الإطار المكاني هو الإطار الأمثل؟ ولماذا لم يكن العالم العربي؟ أو العالم الإسلامي؟ أو العالم الثالث؟ أي ما هي البيئة المكانية والإطار الجغرافي الإصلاح؟ وما هي العلاقة بين مكوّنات هذا الإطار؟ وهل هناك أوجه تشابه كافية لجمع هذه الدول في إطار واحد؟ ولماذا هذه الدول بالتحديد وليس غيرها؟ لماذا لم تضف دول مثل أرمنيا وإريتريا أو أثيوبيا أو غيرها؟ ج- إصلاح ماذا؟ أي ما هي القطاعات التي تحتاج إلى الإصلاح؟ وهل هذه القطاعات هي فعلاً سبب الفساد؟ أو هي الأساس الذي إذا ما تمّ إصلاحه سوف يصلح باقي البناء؟ ولماذا هذه القطاعات أو المجالات بالتحديد وليس غيرها؟ لماذا يتم البدء بقطاع التعليم وليس بقطاع الاقتصاد؟ ولماذا يتم البدء بالتعليم الديني وليس التاريخ أو الرياضيات؟ أو العلوم؟ ولماذا يتمّ الإصلاح من خلال الاستبدال وليس من خلال التأصيل والانطلاق من الذات؟ وما هي المجالات الأحق بالبدء؟ وما هو أصل الداء حتى نستطيع أن نقدم العلاج الذي يقضي على المرض لا العرض؟ د- ما هي أسس عملية الإصلاح ومنطلقاتها؟ هل هي عملية إصلاح؟ أم عملية تبديل وتغيير واستبدال ثقافة بأخرى وتاريخ بآخر وهوية بأخرى؟ ما هي المسلّمات التي ينبغي أن ينطلق منها الإصلاح؟ أليس الإصلاح مشتقاً من المصلحة والصلاح؟ وما هي دلالات هذه الأسس؟ وإلى أين تقود عملية الإصلاح؟ وهل يمكن تحقيق الإصلاح من دون إطار مرجعي معرفي وفكري يحدّد وجهة هذه العملية واتّجاهها؟ هـ- هل الإصلاح عملية "جوانية" أم "برانية"؟ أي هل هي نابعة من الذات أم مفروضة من الخارج؟ وما هي مصالح الطرف الدولي الذي يدفع إليها بشدّة؟ وما هي أهدافه؟ وما هي خلفياته ومسلّماته المتعلقة بعملية الإصلاح؟ ولماذا لا يتمّ تحديد "أجندة" الإصلاح طبقاً للحاجات الداخلية وليس للمصالح الخارجية؟ و- هل يقوم بالإصلاح من قام بالإفساد؟ أي هل يمكن أن يتحقق الإصلاح على الأيدي نفسها التي ساهمت في الوصول إلى الحالة التي تحتاج إلى إصلاح؟ هل يمكن أن نعهد بعملية الإصلاح للكفاءات البشرية التي كانت هي نفسها التي قادت الأُمّة إلى الحالة التي وصلت إليها؟ ما هي العلاقة بين الإصلاح والمصلح؟ ما هو دور العنصر البشري في تحقيق الإصلاح؟ تلك الأسئلة تقود الباحث إذا ما أجاب عنها إلى الوصول إلى حالة أكثر اقتداراً وفعالية في تحليل الواقع السياسي، والوصول إلى درجة أعلى من الفهم، والإحاطة بمختلف عناصره ومتغيراته، ولعل معالجة موضوعات وظواهر أخرى بالمنهج نفسه تقرّب إلى الأذهان بدرجة أكبر دلالة التحليل السياسي وفائدته في فهم الواقع المعاصر بصورة تؤدي إلى حسن التعامل معه وتحقيق المصلحة فيه. وخلاصة القول إنّ هذه الدراسة ما هي إلا معالجة لواحد من أهم العلوم الاجتماعية من منظور المثقف العام أو القارئ غير المتخصّص في علم السياسة، لذلك جاءت في صورة حكائية وليس أكاديمية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وختاماً، نرجو أن يفيد بها القارئ، وتكون إضاءة لتحقيق رؤية أفضل لواقع أُمّتنا، ومقدّمة لفهم أكثر عمقاً للظواهر السياسية في واقعنا.. فهم يحقّق السداد في الرؤية، والإصابة في الفعل. المصدر: كتاب في الاجتماع السياسي والتنمية والاقتصاد وفقه الإصلاح

ارسال التعليق

Top