قال تعالى: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الدخان/ 1– 6). والليلة المباركة التي أُنزل فيها القرآن - والله أعلم - هي إحدى ليالي رمضان. والقرآن الكريم لم ينزل كلّه في تلك الليلة، كما أنّه لم ينزل كلّه في شهر رمضان؛ ولكن هذه الليلة كانت موعد اتصال مبارك نزل فيه الوحي على نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) لإصلاح البشرية في كلّ زمان ومكان، فقد فصل الله سبحانه وتعالى بهذا القرآن في كلّ أمر وفي كلّ شأن، وميّز الحقّ من الباطل ووُضعت الحدود، وأُقيمت المعالم لرحلة البشرية كلّها بعد تلك الليلة إلى يوم الدِّين. فلم يبقَ هناك أصل من الأُصول التي تقوم عليها الحياة غير واضح، يقول تعالى: (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ).
(أنّها خير من ألف شهر)، بسبب نزول القرآن فيها؛ ولذلك يفضل تلاوته في هذه الليلة، ولقد حثّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على القيام فيها في قوله: «مَن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدّم من ذنبه». والمراد من إنزال القرآن فيها بدء نزوله على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة بعضها يعيّن الليلة السابعة والعشرين من رمضان، وبعضها يعيّن الليلة الواحدة والعشرين، وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة.
وقد سمّاها الله سبحانه وتعالى «ليلة القدر» كما جاء في سورة القدر، وقد يكون معناه التقدير والتدبير. ففي هذه الليلة قررت أقدار أكبر من أقدار الأفراد، أقدار أُمم ودول وشعوب، أقدار حقائق الوجود. ونحن المؤمنون مأمورون أن لا ننسى ولا نغفل عن هذه الذكرى، فقد حثّنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على قيام هذه الليلة من كلّ عام وتحرّيها في العشر الأواخر من رمضان، ففي الصحيحين قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان». وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «مَن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه».
والآيات القرآنية في سورة القدر بيّنت أنّ هذه الليلة (خير من ألف شهر)، فإذا أحياها المسلم بالعبادة والتقرب إلى الله، فكأنّما عبدَ الله سبحانه وتعالى ألف شهر أي حوالي مئة سنة. فهل هناك خيرٌ أكبر من هذا الخير؟ وهل هناك عطيةٌ أكبر من هذه العطية؟
إنّ الليلة موسم عبادة وإنابة، فتوبوا إلى ربكم واستغفروه لعلّكم ترحمون، خذوا من هذه الليلة صفاء النفس، وطهارة القلب، وإنابة المؤمن، وإيمانه بربّه، وشكره على نعمه؛ فإنّ شكر المُنعم واجب (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم/ 7). إنّها موسم ربّاني يفتحه الله لعباده في رمضان ليتقربوا إليه ويستغفروه فيغفر لهم؛ ولكن التقرب إلى الله يكون بالطاعة، بالعبادة، بالصلاة، بتلاوة القرآن، بالدُّعاء، بذكر الله سبحانه وتعالى، فهي ليلةٌ يُحسُّ فيها المسلمُ بقربه من الله فيدعوهُ بقلبٍ خاشعٍ وعين دامعةٍ ويعترفُ المسلم لله سبحانه وتعالى بذنبه له ويستغفره على ما كان منه، ويشكو إليه ما لا يخفى عليه، وقد ورد أنّه يستحب الإكثار من الدُّعاء: «اللهمّ إنّك عفو تحب العفو، فاعف عنِّي». قال تعالى يصف هذه الليلة: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر/ 1-5).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق