د. مروة حسن الفحار ود. محمد المخزنجي
بينما الصوم زهد في نهم الجسد، نجد موائد الإفطار – في معظم بيوتنا – ولائم ثقيلة تنحو إلى الإسراف، وتناقض فلسفة الشهر الكريم، بل تناقض طبيعة الجسد التي يتكلّم عنها هذا المقال.
منذ آلاف السنين والإنسان يتخذ من الصوم وسيلة لشفاء الجسد، وهذا ما شهد به المؤرخ هيرودوت عام 450 قبل الميلاد، فقد ذكر أنّ المصريين القدماء كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر. وهذا الصوم العلاجي نجده في جعبة الإنسان على مر التاريخ، وحتى وقتنا الراهن. وهناك من الأطباء المعاصرين عدد من المشاهير الذين يعالجون بالصوم مثل الآن كوت وشيلتون وآبي هوفر. ومن قبلهم كان أبو قراط، وجالينوس، وابن سينا الذي كان يصف الصوم بأنّه "علاج رخيص للغني والفقير".
ونحن لا نريد أن نتكلّم عن الصوم كعلاج، فهذه عملية معقدة، ويجب ألا تتم إلا تحت إشراف طبي دقيق. لكننا نريد أن نتكلّم عن الفائدة الصحية من الصوم، وكيف أننا نخطئ عندما نهدر هذه الفائدة على موائد إفطارنا.
- تكييف وتنظيف:
في الصوم، وحال الإمتناع عن الطعام عموماً، تحدث عمليتان أساسيتان هما:
1- ينتقل الجسم إلى تغذية نفسه معتمداً على الإحتياطيات المتراكمة داخله، يأخذ من مخزون المواد العضوية من السكريات والشحوم والبروتين ولا يفرط بسهولة في المواد غير العضوية مثل الحديد المختزن في الكبد من بقايا الكريات الدموية الحمراء منتهية الأجل.
2- يتخلص الجسم تدريجياً من الفضلات والسموم المتخلفة بداخله على إمتداد فترات طويلة، فهو من ناحية لا يستقبل المزيد من السموم والنفايات الناتجة عن تحلل الطعام في الجهاز الهضمي، ومن ناحية أخرى يطرح ما تراكم به من سموم عبر اللعاب وعصارة المعدة والبنكرياس والحوصلة الصفراوية والبول والغائط والمخاط.
إضافة للعمليتين الأساسيتين السابق ذكرهما، يحصل الجسم على قدر كبير من الراحة وتوفير الكثير من الطاقة المستهلكة في عملية الهضم. ومثال ذلك أنّ القلب تنخفض نبضاته إلى 60 نبضة في الدقيقة، أي أنّه يوفر طاقة 28800 نبضة كل 24 ساعة. نتيجة لهذه الراحة يشرع الجسد بترميم نفسه، وتشير الأبحاث الطبية إلى أن عملية الشيخوخة التي لا تتوقف منذ ميلاد الإنسان حتى موته، لا يمكن وقفها بأي أدوية أو معالجات فيزيائية، والطريقة الوحيدة لإبطاء شيخوخة الجسد هي بتقليل السعرات الحرارية التي يتناولها الإنسان بمعدل 30%، والصوم نموذج لهذا الإقلال من السعرات الحرارية.
كل هذه الفوائد الجسدية نجنيها من الصوم، لكن بانقضاء نهار الصوم وبدء الإفطار، تحدث فوضى كبيرة تطيح بكل ما جناه جسد الصائم، لأن العادات التي يظنها البعض حميدة، وهي ليست كذلك، تجعل ربات البيوت يخرجن كل ما لديهنّ من فنون الطهي في رمضان. فتمتلىء مائدة الإفطار بعشرات الأصناف من الأطعمة، في تنوع عجيب، وبكميات تفوق الإحتمال في الأيام العادية: أنواع وأشكال من اللحوم والمعجنات والأرز والمكرونة والخضار المطبوخ والمحاشي والمقليات والطواجن والعصائر والمخللات والحلويات. ويبدو ذلك كله في عيون الصائمين جميلاً، لكن معدهم وملحقاتها ترى غير ذلك، بدليل كثرة حدوث التلبكات المعوية وعسر الهضم والآلام والإنتفاخات، وهي كلها أعراض تشير إلى أنّ الجهاز الهضمي بعد أن اطمأن واستراح فوجىء بمعاملة سيِّئة.
فما مصدر هذه المعاملة السيِّئة؟
بالقطع يكمن أحد أسباب معاناة الجهاز الهضمي للصائم في الصدمة التي تسببها الكميات الضخمة والمفاجئة من الطعام التي تنهال عليه وتفوق قدرته على استيعابها الحركي والحيوي بعد منحة الإسترخاء التي أهداها له الصوم طوال النهار. لكن هناك سبباً آخر نستطيع استنتاجه من كتاب مهم ظل على قائمة أكثر الكتب مبيعاً في العالم لسنوات عديدة منذ عام 1988 وحتى الآن، وهو كتاب "لياقة من أجل الحياة" (fit for life) للزوجين "هارفي" و"ماريلين دياموند".
في أحد فصول الكتاب يتحدث الزوجان "دياموند" عن "الخلط الصحيح بين الأطعمة"، ويؤكدان على أنّ الخلط الصحيح بين الأطعمة التي تتناسب فيما بينها وتتلاءم مع الكيمياء الحيوية للهضم، هو من أهم شروط الصحة الجيِّدة.
وعن هذا "الخلط الصحيح بين الأطعمة" يطيح المؤلفان بقاعدة صارت من ثوابت كتب التغذية، وهي أن وجبة الطعام ينبغي أن تحتوي على المجموعات الغذائية الأربع الأساسية الشهيرة، وهي: البروتين، والنشويات، والدهون، والفيتامينات. وبدلاً من ذلك يقترح الزوجان دياموند توزيع هذه العناصر أو المجموعات متباعدة على مدار اليوم، وليس جمعها في وجبة واحدة. وشنا هجومهما الأكبر على الجمع بين عنصرين اعتاد الناس على الجمع بينهما هما: النشويات مع البروتينات! لحم ومعكرونة، أرز وسمك، لبن وأرز. ولعل المقصود هنا هو الإفراط – الكمي والنوعي – في الجمع بين هذه العنصرين في وجبة احدة، وهو ما يعزو له المؤلفان معظم الأعراض السلبية التي يعاني منها الناس في أعقاب الولائم الكبيرة.
- بليونا دولار لمساعدة الهضم!
يقول الزوجان دياموند في تأكيدهما على ما ذهبا إليه: إنّ الأمريكيين ينفقون أكثر من بليوني دولار سنوياً على الأدوية المساعدة للهضم. ومعروف أنّ الأمريكيين من أكثر الشعوب التي تخلط بين البروتين والنشويات في وجباتهم ومنذ طلعة النهار: شرائح "ستيك" لحم البقر (بروتين) في الخبز (نشويات)، مقانق "هوت دوج" (بروتين) في خبز (نشويات)، هامبورجر بقر أو دجاج (بروتين) في الخبز (نشويات) دجاج (بروتين) مع فرنش فرايس (بطاطس – نشويات)، كورن فليكس (نشويات) مع حليب (بروتين).
وللتأكيد الساخر على ملاحظتهما يتساءل المؤلفان: هل رأيت زرافة تخلط ورق الشجر مع البيض المقلي؟ أو نمراً يأكل بطاطس مع اللحم؟ أو أرنباً يأكل الجزرة في ساندويتش؟ ويجيبان على التساؤل ساخرين أيضاً: طبعاً لا، لهذا لن تجد زرافة تبحث عن أقراص "جيلوزيل" في الصيدلية المجاورة، ولا نمراً يتناول البيبتو بيزمول، ولا أرنباً يبتلع "الديسفيلاتيل" (وكلها أدوية مساعدة للهضم ومزيلة للإنتفاخ)!
إنّ الوظيفة الرئيسية للجهاز الهضمي هي التعامل مع الطعام الذي يُقدّر بنحو 50 طناً على الأقل للإنسان خلال متوسط عمره. أي أنّه عمل كبير ومتواصل، ومن ثمّ لن يكون الطعام في حد ذاته هو المشكلة، بل هو الإفراط في الكميات وفي خلط الأنواع التي نلقيها في المعدة معاً دون حساب أو تحسّب. فمعظم الأطعمة يتم هضمها في المعدة بواسطة العصارات المعدية، وثمّة نوع واحد من العصارة المعدية يُفز لهضم نوع معيّن من الطعام ولا تكون له فائدة تُذكر في هضم نوع آخر مصاحب له. بل هناك من العصارات ما يبطل عملها بدفعها للإختلاط بعصارات أخرى. وهذا هو السبب الذي من أجله يدعو الزوجان "دياموند" إلى تحجيم خلط النشويات مع البروتين، فهما لن يمكن هضمها في المعدة معاً، فالبروتينات – متضمنة اللحوم ومنتجات الألبان والمكسرات – تتطلب عصارة معدية حامضية لهضمها وتتكون من حمض الهيدروكلوريك مع أنزيم البيبسين اللذين تفرزهما خلايا معيّنة في المعدة. والنشويات – كالخبز والأرز والبطاطس والحبوب – تتطلب عصارة قلوية تبدأ مع المضغ وتوجد في لعاب الفم. ومن القواعد الكيميائية البسيطة الثابتة أنّ الحامض والقلوي إذا امتزجا يعادل أحدهما الآخر، أي يبطل مفعوله، فإذا تناولت وجبة من النشويات والبروتينيات معاً فإنّ اللعاب – وهو قلوي – سيشبع النشويات أثناء المضغ، وعندما يهبط الطعام إلى المعدة، تفرز المعدة عصارة حامضية لهضم البروتين، وإذ تلتقي العصارة القلوية مع العصارة الحامضية تبطل مفعولها أو تضعفه فيعاق هضم البروتين، ولا يكتمل هضم النشويات في الوقت نفسه. والنتيجة أنّ الطعام الذي صمُمت المعدة لدفعه إلى الأمعاء خلال ثلاث ساعات في المتوسط، يمكث ساعات أكثر وأطول داخل المعدة فيفسد البروتين وتتخمر النشويات وتتكون كتلة ضاغطة عسيرة الإزاحة داخل المعدة، وتظهر أعراض عسر الهضم مثل الإحساس بالإنتفاخ والثقل والألم والضيق، وطلوع الروح، ويجري البحث – أخيراً – عن خلاص بالقىء أو بمضادات الحموضة والمهضمات والمسكنات.. إلى آخر هذه الترسانة الهائلة في جعبة إمبراطوريات صناعة وتجارة الأدوية!
- صعوبة ويسر:
والعمل؟ يجيب عن ذلك الزوجان "دياموند" بالقول: "لا بأس.. تشتهي البطاطس؟ كلها بعيداً عن اللحوم. تشتهي اللحوم؟ خذها منفصلة عن الأرز. وحتى لا تنهض عن المائدة جائعاً، يمكنك الجمع بين اللحوم وسلطة الخضراوات".
بالطبع يصعب تطبيق ذلك بصرامة مهما كانت القناعة بصحة عدم الجمع بين البروتينات والنشويات في وجبة واحدة، لكن يمكننا أن نتصور حلاً وسطاً للمشكلة يتمثل في التوسّط: أي تقليل أحد النوعين عند خلطه مع الآخر! لكن ما بالنا لو أردنا الحديث عن خمسة أنواع تجتمع مع خمسة غيرها على مائدة واحدة، في وجبة واحدة، بعد صوم نهار كامل؟ إنّه قرار صعب، يتطلب القناعة إن لم يكن لأجل صفاء الروح، فليكن – على الأقل – من أجل سلام الجسد.
ارسال التعليق