• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ما يبقى وما يفنى

العلامة الراحل السيد محمّد حسين فضل الله

ما يبقى وما يفنى

الثابت والزائل:

يركّز القرآن الكريم في وعي الإنسان الفرق بين الثابت الذي لابدّ له من أن يقف عنده، لأنّه الباقي له، والذي يحقِّق النتائج الطيّبة، وبين المتغيّر الذي ينبغي للإنسان ألا يربط مصيره به لأنّه زائل. وعلى هذا، فالذي يربط مصيره وحياته وأوضاعه، بما يزول، فمعنى ذلك أنّه يربط وجوده بالهواء، بينما إذا ارتبطت حياته بما يبقى، فإنّه يربط مصيره بأرضٍ ثابتة.

ومن هنا يقول تباك وتعالى: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الشورى/ 36)، هكذا يتوجّه الخطاب القرآني للإنسان: حاول أن تدرس كلّ ما عندك، فماذا عندك؟ أنت تملك جمالاً ومالاً وأولاداً وجاهاً وقوّة وأمثال ذلك مما يملكه الآخرون ويتنافسون عليه.. فكّر في كلِّ ما عندك، في جمالك ومالِك وجاهك وقوتك ومركزك، وادرس حجم هذه الأمور وعمرها. ما هو عمرُ جسدك، هل يبقى بكلِّ ما فيه من طاقات؟ ما هو عمر جاهك، وأنت الرجل العظيم الكبير الذي يخضع الناس ويصفّقون له، هل يدوم لك ذلك؟ إنّ كلّ هذا سيزول عنك، وذلك عندما يودّعك الناس وينقلونك إلى قبرك، حيث هناك الظلمات والحشرات والديدان التي ستصبح مجتمعاً جديداً لك.. فالموت يفتك بكلِّ جسدك ولن يبقى لك إلّا عملُك. إذاً، عندما تكون في الدنيا، فأنت قويُّ العضلات والسلاح وكثير الأتباع، ولكن هل يبقى لك ذلك عندما تموت؟ وفي حياتك قد تملك الدنيا، ولكنّك عندما تفارقُها، فلن يبقى لك إلّا كفنُك.

 

ما عند الله خيرٌ وأبقى:

إذاً، كلُّ هذه الأمور: المال والبنون والجاه والقوة والمجد، هي متاع، أي حاجةٌ وحالةٌ طارئةٌ في حياتك، تماماً كما هو الشيء الذي تستمتع به ثمّ تُهمله، أو كما هو المتاع الذي تحمله في سفرك، وبعد ذلك تستغني عنه، فإذا كان كلّ ما أوتيته كثيراً أو قليلاً مجرّد متاع، فهل يمكن لك أن تركّز حياتك عليه؟ فتجعل كلّ جهدك وفكرك وصراعك من أجله، أو تجعل كلّ أحلامك وآمالك وآلامك وهمومك في دائرته (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الشورى/ 36)، وهو الشيء الزائل والمتغير والمتحوّل لأنّه متاع.. ولكن ما هو الثابت؟ (وما عند الله) وماذا عند الله؟ عند الله رضوانه ورحمته وجنّته وكلُّ شيءٍ يحقِّق لك السعادة المطلقة، التي لا خوف ولا حزن ولا هموم ولا مشاكل فيها (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) قارن بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، وبين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، قارن بين القرب إلى الله والقرب إلى الناس، فأيّهما خيرٌ لك؟ من الطبيعي أنّ ما عند الله خير، لأنّ ما عنده سبحانه يعطيك رحمته ورضوانه، ويمنحك نعيم الله في جنّته (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) (النحل/ 96)، وكلُّ هذه النِعَم هي (للذين آمنوا) لأنّ غير المؤمنين لا ينالون رحمة الله ورضوانه، ولا يحصلون على شيء مما عند الله (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل/ 42)، ومعنى أن يتوكّل الإنسان على الله أن يجعل أموره في كلِّ ما يُهمه ويرغب أو يفكِّر فيه في دائرة الانفتاح على الله، أن يَكِلَ الأمور إلى الله فيما لم يجعل الله له قدرة عليه، أو فيما لم يمكّنه من القيام به.

وعلى هذا، فالمؤمن عندما يواجه الحياة بكلِّ تعقيداتها، يشعر أنّ الله هو كلُّ شيء في الحياة، وأنّه يعيش في تدبير الله ورعايته وبعينه، وخصوصاً عندما يواجه ما لا يستطيع أن يعمله.. وهذا هو التوكّل الحقّ، فلا يُحس باليأس، لأنّ الله في اعتقاده قادرٌ على كلِّ شيء، ولا يعيش الإحباط، لأنّ الله لن يتخلّى عن عباده المؤمنين (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يسيرون في حياتهم على خطِّ الله، يَكِلُون أمرهم إليه سبحانه، فكلُّ ما يشتدّ عليهم ضغطه ويكبر عندهم خطرُه ولا يستطيعون مواجهته، فإنّهم لا يسقطون أمامه يائسين، وإنما ينفتحون على الله متكلين عليه في إزالة ضغطه وإبعاد خطره.

 

من صفات الإيمان:

هذا ما يحصل عليه هؤلاء المتوكلون على الله، وهذه هي صفتهم الأولى، وما هي صفتهم الثانية؟ (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى/ 37)، وصفتُهم أنّهم لا يمارسون المعاصي الكبيرة كمثل الزّنا وشرب الخمر ولعب القمار والظلم وإعانة الظالمين وأكل أموال الناس بالباطل والغيبة والنميمة وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ، وكلّ ما يُعدُّ من الكبائر.

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ) هذه من شروط الحصول على الجنة، أن تكون ممن يجتنب الكبائر، بحيث لا تموت وأنت مُقيم على كبيرة من كبائر الإثم، فإذا كنت مارست فعل الكبيرة في حياتك، فلابدّ لك أن تتوب وتطلب المغفرة مِن الله قبل موتك، لتموت على التوبة مغفوراً لك (والفواحش) إما أن يكون المقصود من كلمة (الفواحش) ما يتصل بالمعاصي التي تلتقي بالجانب الجنسي من حياة الإنسان كالزّنا واللواط والسُحاق وما إلى ذلك، أو أن يكون المراد بالواحش كلّ ما تجاوز الحدّ من المعاصي.. فهؤلاء المؤمنون هم الذين لم يرتكبوا هذه المعاصي والآثام (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) فأهل الجنة لا يحقدون ولا يتعقّدون مِمَن أساء إليهم، بل إنّهم يعيشون في أنفسهم القلب الكبير والصدر الواسع، فيعفون عمن أساء إليهم، إذا كانوا مِن أولادهم وأزواجهم أو مِن الناس الآخرين، فلا يفجّرون غيظهم بمن أغاظهم، ولا يحرّكون غضبهم بكلام سيِّئ أو عملٍ قاسٍ، بل إنّهم يتخلّقون بأخلاق الله سبحانه الذي يغفر لعباده إذا قاموا بما يغضبه ويسخطه، فرحمتُه سبقت غضبه، حيث يترك لعباده باب التوبة مفتوحاً أمامهم، ولذا، فإنّ المؤمنين الذين يحبُّون أن يعفوَ الله عنهم، فإنّهم يعفون عن الناس، لتزيد درجتهم عنده وطلباً لمرضاته سبحانه.

 

بين الانتقام والعفو:

إنّ الإنسان المؤمن إذا وقف أمام الغضب بين أن يعفو ويسامح في مجالٍ يكون في التسامح مصلحة، وبين أن يشفيَ غيظَه، فماذا يفعل؟ هل يقف لينتقم أم يقف ليعفو؟ فلو سار في طريق الانتقام وكان من حقّه أن ينتقم، فما الربح من ذلك؟ قد يرتاح نفسياً فيفجّر غيظه ويشعر بالراحة والكرامة والعزة، وخصوصاً عندما يُبعد عن أذهان الناس أنّه لم يعش المهانة والاحتقار.. هذا كلّ شيء، ولكن إذا عفا طلباً لما عند الله فسيمنحه سبحانه عفوَه ومحبته، لأنّ الله يحبّ الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وسيحصل على الخير ويكون قريباً للتقوى (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (البقرة/ 237).

إنّ المؤمن لا يندفع وراء غضبه، لأنّه لا يتحرك بوحي الانفعال، يغضب، فيُمسك غضبه، ثمّ يناقش المسألة: هل إذا انتقمت أحصل على كسب كبير، أم إذا عفوت أحصل على الكسب الكبير؟ في الجواب، نعود إلى كلمات أمير المؤمنين عليّ (ع) حيث يقول: "متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام، فيُقال لي: لو صبرت، أم حين أقدر عليه، فيقال لي: لو عفوت" وفي صفة الله تعالى يقول (ع): "الذي عَظُم حِلمُهُ فعفا وعدل في كلّ ما قضى" فإذاً، هؤلاء الذين يعفون يأملون بما عند الله، لأنّ الجنة لا تُعطى مجاناً، فهم يعيشون شروط الحصول عليها داخل أنفسهم التي يربّونها على ذلك، ليعيشوا في الدنيا أخلاق أهل الجنّة، فيكظمون غيظهم ويعفون عمن أساء إليهم.

 

الاستجابة لنداء الله:

وتتوالى الآيات في عرض صفات المؤمنين (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى/ 38)، يناديهم ربهم ليقربوا إليه سبحانه بأفكارهم وأقوالهم وأعمالهم، ويُجيبون النداء: لبّيك وسَعدَيْك فيما أمرتنا مِن الصلاة والزكاة والخمس والصوم والجهاد والحج واجتناب المحرّم، لبيك في اجتناب الظنّ والتجسّس، لبّيك في رفض الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وكافة ألوان الرجس.. وكان من مظاهر استجابتهم لربّهم (وأقاموا الصّلاة) لأنّ الصلاة عمود الدين، ومعراج روح المؤمن إلى ربِّه، فمن لا يصلّي لا يعيش معنى الخضوع لربّه، ولا معنى العبودية له سبحانه، وهو بالتالي يتكبّر على خالقه، ومَن يتكبّر على ربّه يكون كإبليس، إبليس الذي كانت مشكلته أنّه لم يسجد بأمر الله لآدم (ع) (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (الأعراف/ 12-13)، إبليس خرج من الجنة بسبب رفضه لسجدة واحدة (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (الحجر/ 34-35)، فهل يأمر الذين لا يصلّون أن يدخلوا الجنة؟ الصلاة هويّة المسلم. فالمسلم الذي لا يصلّي، صحيحٌ أنّه مسلمٌ، ولكنه يفتقد الهوية الحقيقية "الصلاة عمود الدين إن قُبِلَت قُبِل ما سواها، وإن رُدّت رُدّ ما سواها" ففي الصلاة، يعيش الإنسان معنى خضوعه لله سبحانه، وهذا ينعكس على كلِّ أعماله. والله تعالى يقول: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون/ 4-7)، الويل لهؤلاء الأشخاص الذين يصلّون، ولكن يؤخرون الصلاة إلى خارج وقتها، أو الذين يصلّون ليُراؤوا بذلك الناس أنّهم يصلّون، أو الذين يصلّون ويمنعون الطعام عن الذين يحتاجون إليه وهم قادرون عليه، هؤلاء لهم الويل، فكيف بالذين لا يصلّون أبداً؟ ويقول سبحانه أيضاً: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (المدثر/ 38-46)، هذا لسان حال تاركي الصلاة: كنا نملك ولا نعطي المساكين، وننساق وراء الهتافات، فإذا مشى الناس في الوحل مشينا في الوحل. وإذا مشوا على الماء الصافي مشينا معهم، لم يكن لدينا موقف، ولم نملك التقوى، وكنا ننكر يوم القيامة مستهزئين، وهم يردّدون: مَنْ ذهب إلى الآخرة وعاد ليخبر بما رأى؟ ولذلك، علينا أن نملأ ذهنيتنا بثقافة القرآن، ونرفض كثيراً من المواقف التي تتستر على الذين لا يصلّون، ولا نقبل بتلك المقولات بأنّ فلاناً "آدميّ" وطيِّبٌ، وليس من مشكلة صلّى أم لم يُصلِّ. إنّنا نقول، كيف يكون طيِّباً ويتمرد على الله، أو كيف يكون خيِّراً ويتكبّر على الله، وكيف يكون كريماً، ويترفّع عن الخضوع لله؟ إنّ مسألة تقويم الناس لا نأخذها من الآراء الشعبيّة، إنما نأخذها من القرآن الكريم الذي يحدّد لنا خطّ السير والمنهج الأصوب، لتكون حياتنا كلّها لله وفي سبيله.

 

عقلية الانفتاح:

ونعود إلى الذين (اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى/ 38)، مجتمع هؤلاء، مجتمع الجنة وهم في الدنيا، فليس مجتمعهم مجتمع الاستبداد، الذي يتفرّد فيه الإنسان برأيه، ولا يفكِّر أحدهم بأنّه هو الذي يفهم، وأما الآخرون فمحتاجون إلى عقله، وليس بحاجة إلى عقل أحد. فالذي هو من أهل الجنّة يعتبر أنّ له عقلاً وللآخرين عقولهم، له طريقته، وللآخرين طريقتهم في فهم الأمور، ولا يدّعي بأنّه يعرف الحقيقة كلّها، بل يعرف جزءاً من الحقيقة، والآخرون يعرفون الأجزاء الأخرى. ومن هنا، أراد الله لرسوله (ص) أن يشاور المسلمين، وهو الغنيّ (ص) عن المشاورة والرأي، ولكن لينبهنا نحن ويعلّمنا كيف نكوّن فهمنا في معرفة الأشياء وحقيقتها، فقال سبحانه: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين) (آل عمران/ 159)، فيا أيها الإنسان عليك في كلّ أمرٍ يتعلّق بحياتك الشخصية أو العائلية أو الاجتماعية أو السياسية أو أيّ أمر ترى فيه مصلحة حياتك، ولم تصل إلى الرأي السديد في ذلك، أن تستشير الناس من حولك لتجمع آراءها "مَن شاور الرجال شاركها في عقولها" فكما أنّه إذا كنت تملك رأس مالٍ صغيراً وشاركت فيه جماعة فإنّه ينتج ويتحرّك بشكل أقوى، وإذا بقي مجمّداً عندك فإنّه لا يُنتج شيئاً، كذلك عقلك، فإذا ضممته إلى عقول الآخرين، فإنّك تحصل على عقل كبير، وتستطيع أن تدرك الحقائق أكثر.

إذاً (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى/ 38)، فأهل الجنّة ليسوا في الدنيا بخلاء (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) (محمّد/ 38)، فهؤلاء يبذلون مما رزقهم الله إلى مَن يحتاج إلى الرزق، فينفقون على الآخرين كما ينفقون على أنفسهم.

 

عندما يكون في العفو مصلحة كبرى:

وإضافة إلى ما يتميّز به هؤلاء المؤمنون، فإنّهم يعيشون الوعي في حياتهم حتى في أقسى حالات الضيق (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى/ 39)، وهذا ما يبيّن حالة التوازن في موقف المؤمن إزاء الاعتداء عليه، حيث من حقّه أن ينتصر لنفسه، ولكن ليس بأكثر مما أعتُدِي عليه (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى/ 40). يرُدُّ على الكلمة بكلمة، وعلى الضربة الواحدة بضربة واحدة وفي المكان نفسه، أمّا أن يكلّمنا الآخر كلمةً فَيُطلق عليه الرصاص، هذا ليس ردّ اعتداء، هذا عدوانٌ، لأنّ الله لم يسلّطك على الإنسان الذي سبّك تقتله، لقد سلّطك عليه أن تسبّه، كذلك إذا ضربك إنسان، فليس لك أن تجرحه، بل لك أن تضربه فقط في الموضع الذي ضربك عليه.

ولذلك، علينا أن نرفض العقلية الجاهلية في القتل، فإذا ما قَتَلَ فلانٌ فلاناً، فالعائلة والعشيرة كلّها تذهب وتحرق بيوت العائلة الأخرى وتشرّد أفرادها، هذه عقلية مقتها الإسلام ورفضها. ولنا في هذه القصة التي تُروى عن أمير المؤمنين عليّ (ع) خيرَ شاهد لرفض الإسلام هذه الذهنية. فقد كان (ع) جالساً بين أصحابه وكان معهم أحد الخوارج الذين تمرّدوا على أمير المؤمنين (ع) وحاربوه وصادف أن مرّت امرأة من أمامهم، فرفعها القوم بأبصارهم وبدأوا التحديق بجمالها، فما كان مِن أمير المؤمنين عليّ (ع) إلى أن وجّههم إلى سوء ما يفعلون بطريقةٍ تحمل عمق الأدب الإسلامي، فقال لهم: "إنّ أبصار هذه الفحول طوامح". الفحولة تعبير عن الحالة الجنسية عندما تُثار فيطمح الإنسان إلى تلبية حاجتها ورغبتها وغريزتها – "وإنّ ذلك سبب هَبَابِها" – يعني سبب سقوطها وانحرافها وهيجانها – "فإذا نظر أحدُكم إلى امرأة تُعجبه" – وحدثت عنده حالة شهوانية – "فليلامس أهله، فإنّما هي امرأةٌ كامرأته" فلا يتطلّع إلى نساء الناس. وعندما سمع هذا الخارجيّ الموجود بينهم كلام الإمام (ع) قال: "قاتله الله كافراً ما أفقهَه"، عندها تحرّك أصحاب أمير المؤمنين (ع) ليقتلوه بعد أن ثارت أعصابهم، تماماً عندما نثور بشخص يتحدّى قياداتنا ومقدساتنا، فإنّنا ننطلق لننال منه. ولكنّ الإمام (ع) لم ينفعل وهدّأ من ثورة أصحابه قائلاً: "رويداً، إنما هو سَبٌّ بسبّ، أو عفوٌ عن ذنب". وهنا تظهر عظمة القيادة، هذه القيادة التي لا تسقط لحظة الانفعال، تزول الجبال وهي لا تزول، وتبقى مع الله مهما واجهت من تحدّيات.

ولذا، فإنّ ميزان الإنسان المسلم بيده، فيجعل مزاجه منسجماً مع رسالته وخطّه وتكاليفه الشرعية (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى/ 40)، فمن يتنازل عن أخذ حقّه، يدّخر الله له ذلك، ويضاعف له الأجر، وذلك عندما يتجاوز الإنسان لحظة الغيظ والغضب فيعفو ويتجاوز. وهذا عندما يكون في العفو مصلحةٌ كبيرة (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين يزيدون في الحدّ (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (الشورى/ 41)، فالمظلوم الذي يحبّ أن يأخذ حقّه ليس عليه مِن مسؤولية، لأنّ له الحقّ في أن ينتصر على مَن ظلمه بمقدار ما جعل له الله مِن حقِّ الانتصار (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى/ 42)، فالله تعالى لابدّ أن يأخذ للمظلوم حقّه مِن الظالم (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (الشورى/ 43)، إنّ الله يقول لمن يصبرون ويغفرون، لا تظنوا أنّ الصبر ضعف والمغفرة مهانة، بل إنّ الصبر مظهر قوّة، لأنّكم انتصرتم على غرائزكم وعلى روح الانتقام في أنفسكم، واستطعتم أن تكظموا غيظكم في وقت يتفجّر فيه الغيظ. وهذا يدلُّ على أنّكم تملكون القوّة النفسية والعزم الكبير، فأنتم الأقوياء الصابرون، ولستم الضعفاء المنتقمين.

 

المصدر: كتاب من عرفان القرآن

ارسال التعليق

Top