العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله
◄في حديث الإمام الصادق (ع) عن الحرِّية والذي يمثِّل أعمق النظرات في معنى الحرّية التي اقترب منه بعض المفكِّرين الغربيين مثل "جان بول سارتر" وغيرهم وإن لم يصل إلى عمقها، إنّ الإمام عندما يتحدَّث عن الحرّية فهو يكشف عن أنّ الحرّية لا تأتي من الخارج، فأنت حرّ بمقدار ما تكون إرادتك حرّة، وعقلك حرّاً، وموقفك حرّاً. وأنّ الحرّية لا تأتي بمرسوم، ولا تأتي من الخارج، إنّما تنبع من الداخل، حرّيتك لا تُقاس بالمساحة التي تملكها وتتحكّم فيها، قد تكون حرّاً وأنت في الزنزانة التي لا تتّسع إلّا لجسمك، وقد تكون عبداً وأنت في الصحراء. فللأسف نحن مستغرقون فقط في الفضائل والمآسي، أمّا المفاهيم، فكم بالمائة من الناس يعرفون مفاهيم أهل البيت (ع) التي هي مفاهيم الإسلام الأصلية "إنّ الحرّ حرٌّ في جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره ولم تقهره، وإن استُعبد وقُهِرَ وأُسِرَ كما كان يوسف الصدِّيق، فإنّه لم يضرّره حرّيته إن استُعبدَ وقُهِرَ وأُسِرَ ولم تضرّره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله أن مَنَّ الله عليه، فصيَّر الجبّار العاتي عبداً له بعد أن كان مالكاً له، ورَحِم به أُمّةً، وكذلك الصبر يعقب خيراً، فوطِّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا"، فلقد كان عبداً في المعنى القانوني: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (يوسف/ 20). كان عبداً في المعنى القانوني ولكن كان حرّاً بمعنى الإيمان وبالمعنى الإرادي الإنساني، لم تقهر حرّيته، ولم تضرّه هذه العبودية القانونية وهذا السجن "فصيَّر الجبّار العاتي عبداً له بعد أن كان مالكاً له، ورَحِم به أُمّةً، وكذلك الصبر يعقب خيراً، فوطِّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا"، وهنا يساوي الإمام بين الصبر والحرّية، فبمقدار ما تكون صابراً على نقاط ضعفك، على شهواتك، على آلامك وعلى صرخات الجوع في معدتك بمقدار ما تكون حرّاً لأنّ ما يستعبد الناس هو حاجاتهم، نحن عبيد حاجاتنا ويستعبدنا الآخرون الذين يملكون حاجاتنا.
إنّ قصّة يوسف (ع) هي قصّة إنسان حرّ من خلال إيمانه، حرّ أمام شهوته، حرّ أمام الأقوياء، حرّ أمام ضغط السجن، فلم يسقطه، ودخل السجن ودخل معه فتيان وبدأ الدعوة إلى الله في السجن (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف/ 39). ثمّ خطّط لحركته في المسؤولية العامّة، فأمسك بخزائن مصر واستطاع أن يُفجِّر عبقريته الاقتصادية في إدارتها بالطريقة التي تجاوز فيها المشاكل والصعوبات التي عاشها الناس هناك، ولكنّه لم يحمل المسؤولية إلّا بعد أن أظهر كلّ براءته من التهمة التي ألصقتها به امرأة العزيز، فلم يسقط أمام الإغراء من خلال عصمته الأخلاقية والروحية ممّا يجعله في الموقع المميّز الذي يوحي بالعصمة الاقتصادية، واستفاد في ذلك كلّه من معرفته الإلهامية في تفسير الأحكام وبقي في المواقع كلّها ذلك الرسالي الذي يُحدِّق برسالته من خلال ابتهاله إلى ربّه (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف/ 101).
كونوا الأقوياء الصابرين تحرزوا حرّيتكم في أي موقع من مواقع الحرّية. وهذا ما علَّمنا إياه الإمام الحسين (ع): "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد، ألا وأنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة"، وهذه هي مسألة الحرّية عندما تكون عقلاً حرّاً وقلباً حرّاً وموقفاً حرّاً، وتلك حركة الحرّية في الإدارة القوية الصابرة أمام الإغراء وعناصر الانحراف لترفض ما يريد الله لك أن ترفضه، وتقبل ما يريد الله لك أن تقبله على مستوى القضايا الحيوية التي تتحدّى في الإنسان التزامه وروحيّته في الحياة ومع الإنسان كلّه.►
المصدر: كتاب الندوة/ ج1
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق