• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مبادئ مدرسة الغدير

عمار كاظم

مبادئ مدرسة الغدير

هي مبادئ واسعة وعميقة لدرجة أنّه لا يستطيع أحد الإحاطة بها وبكُنهها جميعها، إلّا بقبسات منها مشعة. ومن أقوال الإمام عليّ (عليه السلام)، على سبيل المثال، نلفت نظركم إلى العبارة التالية الموجزة الكلمات والعميقة الغور: «والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت».

النقطة البالغة الأهميّة التي تتضمّنها هذه العبارة أنّ الإمام  قد استخدم كلمة «لو»، وهي كما يذكر علماء اللغة ليس مجرد حرف شرط، بل حرف شرط يدلّ على امتناع لامتناع، أي امتناع الجواب لامتناع الشرط، يقول الله عزّوجلّ في كتابه العزيز: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء/ 22)، أي لو كان في الأرض والسماء آلهة غير الله عزّوجلّ لانفرط عقد الكون، ولكنّ الأمر ليس كذلك، فالسماوات والأرض باقيتان على حالهما ممسكتان، إذن ليس فيهما آلهة إلّا الله، فحرف (لو) يدلّ على أنّ ما بعده من الشرط غير ممكن.

وهكذا نحو قولنا: لو كان لي جناحان لطرت بهما، فانتفى طيراني لعدم امتلاكي جناحين. فـ«لو» ابتداءً تدل على انتفاء مدخولها، من هنا، يكون معنى قوله «والله لو أُعطيت...»: أي إنّ عصياني لله تعالى في ظلم نملة - بهذا المقدار القليل -لا يمكن تحقّقه حتى إذا أُعطية مقابله الأقاليم السبعة، وهذا المعنى يؤشر عليه حرف «لو». فالإمام  غير مستعدّ للفوز بملك الأقاليم السبعة في مقابل معصية الله، ولو في سلب قوت نملة واحدة. ونقطة ثانية مهمّة في العبارة المذكورة: هي استخدام كلمة «جلب شعيرة»، وهي قشرة حبة الشعير الرقيقة، والتي تنزع عنها تلقائياً، ولو كان يوجد ما هو أتفه وأقل شأناً من جلب الشعير، لقارن الإمام  به.

من هنا، فقد أقام الحجّة على جميع الحكّام وولاة الأمر، واضعاً إيّاهم أمام مسؤولياتهم الخطيرة، هؤلاء الحكّام الذين لا يتورّعون عن ارتكاب أية جريمة، فيبيدون الحرث والنسل، ويزهقون الآلاف من الأرواح الطاهرة البريئة من أجل شبر من الأرض، أو مال قليل، أو بلوغ المناصب، والتمتّع بحطام الدُّنيا الزائل.

الغدير ليست قضية أو واقعة فقط، بل هو ثقافة إنسانية كاملة في الأبعاد كافّة.. هذه الثقافة تم تجسيدها عملياً إبّان قيادة الإمام عليّ (عليه السلام) للأُمّة، ففي مفاصل هذه القيادة ومحطاتها المعروفة، رسخت ثقافة الغدير من ملهمها الأوّل وقائدها الأعظم، وهي الثقافة القائمة على قواعد العدل السياسي والاجتماعي والحقوقي والمالي والصحّي والتعليمي، بالنهاية هي ثقافة الإنسان المُصان من الخوف والامتهان والعوز والإذلال، وهي ثقافة حرّية الرأي وحماية المعارضة، وهي ثقافة العدل بأبهى صوره، وهي أوّلاً وأخيراً ثقافة السلام التي أثبتتها مواقف أمير المؤمنين الرافضة للحرب إلّا عندما تكون دفاعاً عن النفس، وبهذا يقول المنصفون من مؤرخي (الاستشراق، ومنهم روجيه غارودي) أنّ كلّ ما يصرّح به الغرب اليوم سبقهم إليه أمير المؤمنين بـ(ثقافة الغدير)، التي قامت أساساً على مبدأ عدم سفك الدماء، ونبذ القتال والحرب إلّا عندما يكون دفاعاً عن النفس.

ومن الفوائد العظيمة لمثل هذه المناسبات، كمناسبة الغدير، أنّها تهب المسلمين فرصاً جديدة للتقدّم، فهذه الثقافة ذات المبادئ العادلة تحضّ المسلمين على تصحيح منهجهم في إدارة أنفُسهم ودولهم وثرواتهم وتدعوهم الى تعديل سياساتهم، بالإضافة إلى تكوّن ثروة فكرية تزيد من نواصي العلم وترفع من مستويات التفكير والابتكار لدى شباب المسلمين، يحدث هذا في حالة حفظ ثقافة الغدير كمنظومة فكرية ثقافية مبدئية متكاملة، يتصدّى لمسؤولية نشرها جميع القادرين على المضيّ قُدُماً في هذا الدرب الشاق والطويل والذي يستدعي صبراً وجهوداً لا مفرّ من تقديمها في هذا المضمار الهام.

ارسال التعليق

Top