• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

محمد (ص) الحقيقة العظمى

عزيز السيد جاسم

محمد (ص) الحقيقة العظمى
◄- مكة: المدينة المتكبرة:

في وادٍ ضيق طويل غير ذي زرع، قامت مكة، تلك المدينة المعاندة، التي لم تستطع الجبال التي تحيط بها أن تعصرها، لأنّها كانت لا تقل عنها قساوةً وصلابةً وارتفاعاً.

لا يعلم أحد، متى تأسست تلك المدينة الشامخة، كما لا يدري أحد لماذا امتلكت كلَّ الشموخ الذي اتسمت به، رغم أنها لا تحوي القلاع الضخمة، ولا الآثار العظيمة، ولا الدهاليز السرية.

كذلك لا يدري أحد كيف طرقت أبواب ذاكرة التاريخ منذ آلاف السنين، دون أن تمتلك علامات فارقة، في النظام السياسي، والقضاء، والعمران.

لقد كانت – في الواقع – موقعاً أجرد، مجهولاً، لكنها كانت – في الحقيقة – مكاناً معلوماً، كأنها مع القدر في عناق، وعلى اتفاق. كانت مكة محرومة من الزراعة لأنّ مواسم المطر فيها متقطعة، مبلبلة، يطاردها الهجير الأبدي، والحرارة اللعينة التي تشوي بيوت الطوب، وتعتصرها اعتصاراً.

بيوت مشيدة على الرمضاء. استهلكها التبخر، فلم تعرف نعمة الماء الوفير، تلك كانت مكة... محصورة من عمق الأرض، من قبل الجفاف الذي كان سيد المنطقة، لحرمانها من الأنهار.

ولولا ماء بعض العيون، لكانت مدينة للجماجم والعظام والأحجار المبعثرة. في واقعها، كانت مكة لا معنى لها ولا وجود في حساب الدول والمدن المتحضرة، فأي معنى يمكن أن تكتسبه مجموعة بيوت لا تقل وحشة، عن القفار التي تحيط بها، بجبالها، وكثبانها، وفضائلها المدلهم، الذي تملأه سحب الحر اللافح، والسرابات التي تميت انشودة الحياة، كأنها غيوم الأفيون المخدرة والمعتمة؟!

لكن مكة، كانت تحمل – في ذاتها – معناها القدري الخاص... لقد فرضت نفسها على جغرافية المكان، وعلى حضارات الدول والمدن الأخرى، بدون شرط، وبدون مزايا ظاهرة.

لقد قدمت تلك المدينة من بطن التاريخ القديم كصورة ناقصة، مبهمة، كان مقدراً لها أن تكتمل يوماً ما، فتصبح صورة صارخة تدور نحوها أعناق ورؤوس ملايين البشر في جميع أرجاء المعمورة.

أوشكت الجبال أن تخنق مكة لولا بعض المنافذ التي جعلت المدينة على اتصال بالطرق المتجهة من الشمال إلى الجنوب، من الشام إلى اليمن، فكانت للمدينة مكانة تجارية قاسية. لأنّ التجارة إذا لم ترتكز على أرضية اقتصادية فتية، تغذيها الزراعة، والري، وتدعمها السلطة المركزية والقانون، ليست غير فعالية إقتصادية ثانوية، قياساً إلى تجارات المنشأ. فهي مجرد محطة في تقاطع واتصال الطرق التجارية الطويلة التي كانت تنتقل عليها صادرات البلدان والمدن المتواصلة فيما بينها في مبادلات تجارية مدعومة بالزراعة والصناعة.

حقاً، كانت ولادة النبي العظيم محمد قد نقلتها من دائرة النسيان والمجهولية، إلى دائرة الشهرة، إنما قبل ذلك كانت مكة مكان الاغراءات الغامضة. فما هو الداعي – مثلاً، إلى أن يذهب (إبراهيم)، المولود في العراق، من أب نجار (كان يصنع الأصنام من الخشب ويبيعها)، إلى وادي مكة، الأجرد، المقفر، حبيس الجبال، والنائي عن الحواضر، ومواطن الكلأ والماء؛ آخذاً معه ابنه (إسماعيل) وأمه (هاجر)؟! ثم، لماذا يترك إبراهيم ولده إسماعيل وأمّه هاجر في ذلك الوادي الكئيب، الذي لم يوفر لهما مصدر قوت متواضع، بل بخل عليهما حتى بالماء؟

فحينما أصاب العطش إسماعيل، بعد أن نفد الغذاء والماء الذي تركه لهما إبراهيم، أخذت هاجر تبحث عن ماء، مهرولة في الوادي بين الصفا والمروة، حتى تملّكها الأسى واليأس، فكرت عائدة إلى إسماعيل، فكانت قد وجدت – بقدرة الرب – نبع ماء يتدفق من تحت قدم ابنها إسماعيل الذي كان يجسُّ الأرض، جس الضجير، أو اللاهي، الذي يحرق العطش احشاءه؟!

وتحل بركتان في الوادي المعتم. بركة اسماعيل الذي تزوج امرأة جرهمية، فولد له منها اثنا عشر ولداً، هم الذرية التي قيض لها أن تنتشر على البطائح العربية. أما البركة الثانية فهي عطاء ماء زمزم الذي أضفى على الوادي المعتم نعمة لا تُقدر.

لكن ماء البئر ليس كمياه البحار والأنهار، التي توفر للمواقع المنشأة على ضفافها حضارات، وثقافات عقلية، فشتان ما بين ماء بئر وماء بحر أو ماء نهر.

وبئر زمزم مطوق من كلِّ الأركان بكتل الحجارة، بالجلاميد، بالجبال والهضاب، والزمن الثقيل. فكان طبيعياً أن تكون المكانة الأولى للأوثان في عالم الحجر، أما في عالم المياه، فإنّ الوثن يهرب بعيداً، لأنّ في الماء سر الحياة: (.. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ...) (الأنبياء/ 30).

ربّما لو قامت مكة على ضفاف البحر الأحمر لكانت غير مكة الوثنية المتكبرة. ومن المؤكد – لو حصل ذلك – أنّ بئر زمزم ما كان ليكتسب كل تلك القداسة الفريدة.

لكن في المدينة الصحراوية، الساخنة تماماً، والتي يغطيها الحر كطبقات من غضب كوني عميم، كان ماء زمزم يشهد تاريخ المدينة التي صنعت الوثن.

فأصبحت القداسة الوثنية امتيازاً فريداً لمكة المحاطة بالحضارتين الفارسية والرومية، وبالديانات اليهودية والنصرانية، دون أن تفتح ولو نافذة صغيرة إلى أحد.

لقد ظلت تلك المدينة اختراعاً وثنياً، وبناءً وثنياً، لا تأبه للديانات التي انتشرت حولها، فتطابقت مع أصنامها كصنم أكبر، ولم تتحرك قيد شعرة عن هبلها، ترى أي لغز كانت تصوغه تلك المدينة العجيبة؟ أو هل كانت تدخر نفسها لدور قادم؟

وتصنع الوثنية رموزها، أصناماً وأوثاناً ونصباً، حتى تتجاوز الثلاثمائية وستين. ويبلغ التحدي الذروة، لا عندما أغلقت أبوابها ونوافذها بوجه اليهودية والنصرانية فقط، بل عندما مرّت تجربة بناء الكعبة مروراً غير مؤثر على الصمود الوثني لمكة المتجبرة.

لقد أراد إبراهيم وابنه إسماعيل، الهدى للناس فشيدا الكعبة (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران/ 96-97). وأراد إبراهيم وابنه اسماعيل أن تكون الكعبة تطهيراً من الرجس الوثني وحثاً على الإيمان بالوجدانية: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة/ 125-127).

كانت فكرة إبراهيم وإسماعيل أن تكون الكعبة بيت الله، لكن الإرادة الوثنية المكية كانت طاغية طغياناً قدرياً عجيباً. فما أن غادر إبراهيم، ومات إسماعيل، حتى امتلأت الكعبة بالأصنام والأوثان والنصب. وأصبح لكلِّ قبيلة أو عدة قبائل متحالفة أصنامها وأوثانها.

كانت مكة تبالغ في تطرفها الوثني، فما استجابت إلى نداء التوحيد الإبراهيمي. ولا إلى صيحات إسماعيل وأهل مكة من ذريته، وصلبه.

هكذا صنعت المدينة (مكة) نفسها: بنيةً وثنيةً، وعقلاً وثنياً، ونشاطاً وثنياً مكرساً أتم التكريس حول المكعب الأسود: (الكعبة) الذي بلغ من تقديس أهل مكة له أنهم لم يشيدوا دورهم حولها، في (الحرم)، واختاروا التشييد في (الحل).

بتلك المهابة كانت الكعبة وهي في حوزة الوثن عنوةً. وتتكامل عناقيد الوثنية في النظرية والتطبيق، في الفكرة والسلوك، فيُصبح وادي مكة الذي كان مربطاً للخيول والإبل، مركزاً وسيطاً للتجارة، ويدل ساحة اللعب الوثن الأكبر: المال، فيعزز من جبروته، هبل واللات والعزى، لأنّ سلطة المال تحتاج إلى سندها النظري والدعائي، فتم التوظيف المتبادل بين الوثنيين: وثن المال، والصنم، فتكاملت أطراف الأيديولوجية الوثنية.

 

- عام الفيل: المؤامرة في المهد:

كان (ذو نواس) ملك اليمن يهودياً، لا يطيق انتشاره شريعة موسى في بلاد اليمن. فحفر سنة 500 ميلادية أخدوداً، وملأه ناراً، وألقيت في الأخدود أجساد النصارى إلا من تراجع عن ديانته واعتنق اليهودية.

فكتب القيصر قسطنطين إلى ملك الحبشة، داعياً إياه إلى إنقاذ نصارى (نجران)، فأرسل ملك الحبشة جيشاً بقيادة (أرياط) فاستولى عن اليمن وأقام حكمه فيها.

وفيما بعد قام (أبرهة) بتحريض الجيش على (أرياط)، فقتله واستتب له الأمر وبنى كنيسة بصنعاء، واتجه – بعد ذلك – نحو هدف تهديم الكعبة.

كان أبرهة يدّعي بأنّ بعض العرب قد اعتدوا على الكنيسة، وأنّه منتقم منهم، بالتوجه نحو الكعبة لتهديمها. كذلك كان يطمح إلى نشر النصرانية.

حينذاك كانت الأحاديث متداولة عن أنّ جزيرة العرب ستشهد انقلاباً عظيماً، وأنّ نبياً جديداً سوف يظهر على أرض العرب، وكانت الأحاديث تشير إلى مكة، وبخاصة من قبل أهل الكتاب، فكانت حملة (أبرهة) تحمل فيما تحمل من نوايا ما هو أخطر من هدم الكعبة، وذلك بالإستيلاء على مكة والتعرف على من فيها من الأسر، بغية التعرف على "محمد" وقت ولادته، وقتله.

لقد أراد أبرهة وجيشه قتل محمد في مهده، كما أراد هيرودس قتل عيسى في مهده، وكان الأحبار يتداولون الأحاديث عن السنة التي سيولد فيها محمد من سفر دانيال. وكذلك كانت تنبؤات "الموبذان" خادم النار الكبير عند الفرس المجوس.

كانت جحافل (أبرهة) متوجهة بالويل والثبور نحو مكة، تريد إخماد النور في مهده، وكانت قوى الشرك والطغيان ورأس المال التجاري والربوي تمسك بتلابيب الحياة، ومكة – نفسها – كانت مركزاً لأكثر شياطين الحياة تدميراً: شياطين المال، وأقطاب الوثنية الصارمة.. كانت حبكة الكفر والضلال واسعة وقوية. حينذاك، ربما غاضت مياه بحيرة ساوى، واهتز قصر كسرى أنوشروان، وتصدعت أربعة عشر من أبراجه، وخمدت نار الفرس بعد أن ظلت مضطرمة أكثر من ألف عام.. وربما اهتزت الأصنام ونكست رؤوسها، فقد أعطت الأفلاك شيفرة التوافق.. وتقاطعت الأسرار في ظواهر الالتقاء..

ثمّة أمر جديد في عالم جزيرة العرب.. سطع نور باهر من كوكب المشتري، وأحست آمنة بنت وهب بالنور السماوي يشع من داخلها.. لقد اختضت الأرض، وهي تستقبل الوليد القادم محمداً.. فيا أيها اليتامى حيوا خاتم الأنبياء، قائد المستضعفين... فهو يتيم مثلكم، اصطفاه الله من بينكم نبياً لكم، وللناس أجمعين.

لقد حلت البركة، بداية الرحمة الإلهية، بولادة النبي قبل إشراق نجمة الصباح بلحظات في الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل عام 570 أي عام الفيل وعلى كثرة ما قيل عن الخوارق والأعاجيب التي رافقت ولادته، فإنّ أصدق ما قيل هو أنّ حادثاً مر بهدوء وبساطة، "ذلك الحادث هو ميلاد طفل قرشي في مكة، تلك المدينة التهائهة في وسط القفار، تلك المدينة المجهولة، أو المحتقرة لدى أكابر الملوك والأمراء، في الشرق والغرب".

وستمتلئ مكة من سنا نور وجهه، وكذلك الجزيرة العربية، أما أبراج قصر كسرى أنوشروان، فإنّها لن تتصدع فقط، بل سيكون آخر عهد الناس بها، فالنار المجوسية تتلاشى أمام نداء الرحمة التي خاطب الله رسوله بها: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).►

 

المصدر: كتاب محمد الحقيقة العظمى

ارسال التعليق

Top