لتكن جلستنا بعد طول عناء، وفي أجواء شهر رمضان المبارك، مع أنفسنا ومع ربّنا، جلسة نفحص فيها عقولنا كيف صارت، وقلوبنا كيف صارت، وحياتنا كيف استعملت، هل نحن الأتقياء الذين نتقي الله ونخافه في كلّ ما نتكلّم وفي كلّ ما نفعل؟ لأنّ شهر رمضان هو شهر التقوى الحياتية، وعلينا أن نتعلّم كيف نملأ هذا الشهر بكلّ المعاني الروحية والإنسانية والاجتماعية والعبادية، حتى يعيش الإنسان مع ربّه ومع الإنسان من حوله ومع نفسه ومع الحياة كلّها، من منطلق الحقّ والعدل والخير، وعند ذلك يقرب من الله، لأنّ الله تعالى يحبّ الذين يدعون إلى الحقّ ويعملون الخير ويسيرون مع خطى العدل والتقوى في كلّ مجالات الحياة.
فلتكن عقولنا منفتحةً على الله في الحقّ والخير، وحين نحرّك عواطفنا في قلوبنا، فإنّ علينا أن نجعل عاطفتنا منسجمة مع الخطّ الذي يرضاه الله، بأن نحبّ في الله ونبغض في الله، وأن نوالي أولياء الله ونعادي أعداء الله، وحين نتحرّك، فلتكن كلّ الحركات سائرة في خطّ التقوى العبادية، وفي الخطّ المستقيم في الأجواء الرمضانية الخيّرة التي يجب على الجميع أن يتنفّسها في شهر دُعِيَ الناس فيه إلى ضيافة الله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ) (البقرة/ 185). (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).. إنّها تقوى الله في شهر الله وأيام الله، المحمّلة بالبركة والرحمة والمغفرة. فالقيم الأخلاقية عند الصائم يجب أن تكون في أعلى درجات الورع والامتناع عن المحرمات، كما إنّ سعيَهُ ومسابقته إلى الكمالات والمكارم الأخلاقية ينبغي أن تكون في أعلى درجات الإيمان والتقرب إلى الله سبحانه لكي يكون قد حقّق بعض متطلبات هذا الشهر الفضيل والتي تكسبه طاقة وقوة لمواصلة الحياة الإسلامية كما يريد الله حتى تنتهي به إلى جنة الخلد ونعيم لا يبلى. (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزّمر/ 73). إنّ الله سبحانه يعلم أنّ التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له؛ مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به وترضى عليه. ومن ثمّ يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين، المذكّر لهم بحقيقتهم الأصيلة، ثمّ يقرر لهم بعد ندائهم ذلك النداء أنّ الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كلّ دين، وأنّ الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183-185). وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم.. إنّها التقوى.. فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثاراً لرضاه. والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه. فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم. وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها. فما أجمل أن نلتقي في رمضان بالصدق والإخلاص والوفاء والمحبة فبالحب نعيش ونسعد من دون لوم أو تجريح، فنطوي آلامنا، ونفتح قلوبنا للمحبة، ونتمنّى الخير لنا ولكل الناس، وبقدر فرحتنا بإستقباله بقدر ما نرفع أيدينا بالدعاء، راجين من المولى أن يعيده علينا ونحن أسعد حالاً وأكثر إيماناً وحباً. فهو شهر وحيد في فضله، عظيم في أجره، فالملائكة تستغفر للصائمين حتى يفطروا، فعلينا أن نتسامح مع من أسأنا لهم، ونصل من قطعنا، ونعطي من حرمنا، ونعفو عمن ظلمنا، ونراجع كشف حسابنا، وما حصدناه طوال حياتنا السابقة.مقالات ذات صلة
ارسال التعليق