خلق الله كلّ مواليد العالم أُمِّيين جهلاء لا يعلمون شيئاً ولا يعرفون ما يدور حولهم، ولكنّ الله الرؤوف الرحيم زوَّدهم بالوسائل التي تُكتَسب بها المعرفة ويُنال بها العلم ويحصُل الإدراك، وشرح صدورهم ونوّر عقولهم ووسع مداركهم لتكون أوعية لذلك، يقول الله الكريم مُبيّناً الهدف من العلم: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل/ 78)، ولو شاء بقدرته لجعلنا صماً بكماً عمياً لا نعقل ولا نفهم شيئاً.
قال تعالى في محكم كتابه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 1-5). لقد بعث الله الأنبياء والرُّسل للقيام بمهمّة التعليم والتربية والتزكية فأرسل لكلّ قوم رسولاً فقاموا بواجبهم وبذلوا جهودهم لتعليم أقوامهم دون مقابل، فمنهم من قبِل التربية والتوجيه وانتفع بهما، ومنهم مَن أعرض عن ذلك، فعاش منكوس القلب مطموس العقل، إلى أن جاء خاتمهم سيِّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) المربّي الكبير والمعلِّم العظيم، حيث وجد معالم العلم النافع قد انمحت، ومظاهر الجاهلية قد استفلحت حتى أعمت البصائر، وعطّلت العقول، وألفى الناس هائمين في الضلال والجهل، لا علم يربطهم بالله، ولا نور يضيء لهم ظلمات الحياة، فقام البشير النذير (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعليم الناس وتوجيههم وتزكيتهم على هدى من الله وبصيرة، فتعلَّم الناس منه ما جهلوا، وحصلوا على حظ وافر من التربية والتزكية فسعدوا في دنياهم وأُخراهم، يقول الله عزّوجلّ مُبيّناً مقاصد البعثة النبوية: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران/ 164)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلِّماً ميسراً».
لقد اهتم ديننا الحنيف بالعلم أعظم اهتمام.. فالعلم معرفة الشيء على حقيقته، ولا يكون العلم إلّا بعد جهد تدرك به هذه المعرفة. ويطلق العلم على معانٍ كثيرة كالعلم بالعقائد، وعلم اللغات، والتراجم، والأنساب، وعلوم الطبيعة كالرياضيات والكيمياء والفيزياء أو العلوم الحديثة كالحاسب الآلي والإنترنت، وأي علم آخر يجتهد الإنسان لمعرفته. وذُكرت مكانة العلماء في مواضع عدّة من القرآن الكريم كما في قوله تعالى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) (آل عمران/ 18)، وقوله عزّوجلّ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر/ 9)، وقوله سبحانه: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة/ 11).. ففي الآيات إشارة واضحة بأنّ الذين يشهدون بالوحدانية المطلقة هو الله عزّوجلّ وملائكته وأُولو العلم وفيها دلالة بأنّ العلماء يتميّزون بعلومهم ومعارفهم عن الذين لا يعلمون. ويقول النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهّل الله له به طريقاً إلى الجنّة». وهذه الفضيلة لا تختص بطلب علم معين، بل إنّها تمتدُّ إلى كلّ علم يكون للمسلم ولغيره فيه نفع في معيشته وحياته اليومية ما لم يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية.
العلم النافع هو نوع من أنواع الخير الذي يرفع مستوى وعي الإنسان، ويجعله منفتحاً على آفاق الحياة الواسعة، وعلى التفكّر في رحاب الله وعظمته. وهناك الحلم المرافق والموازي للعلم ويسير معه الذي يعيش فيه الإنسان أسمى مشاعر إنسانيّته، ويبرز أصالة أحاسيسه وعمق إدراكه وفهمه وتعامله مع كلّ الظروف والمواقف. قال الإمام عليّ (عليه السلام): «ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك». نحتاج إلى لحظة تعقّل لأوضاعنا ومحاسبة أنفُسنا، حتى نحصّل العلم المفيد، ونعيش ثمار الحلم رحمةً وبركةً على الجميع، لأنّ الحياة تعمر بكثرة العلم وعظمة الحلم، بما يؤسّس لمجتمع خيِّر وفاعل.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق