• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

معاني الحبّ والأخوة في المجتمع

أسرة البلاغ

معاني الحبّ والأخوة في المجتمع

◄الإنسان كما هو عقل وإرادة، هو مشاعر وعواطف ووجدان، وهو نفس وروح، كما هو جسد وأجهزة مادّية، تعمل وفق قوانين بيولوجية وفسيولوجية.

والحبّ حالة نفسـية وعاطفية تنبع من أعماق الإنسان لتمنحه السعادة والهناء، وربطه بالمحبوب ارتباط الانسجام والرِّضى والتوافق، حتى يكاد المحبّان أن يتّحدا، إذا ترسّـخ الحبّ، وتحوّل إلى شعور باحتواء المحبوب. فيشعر المحبّ، فيما وراء الوعي أن لا اثنينيّة بينهما. فهما حقيقة واحدة، وذاتان مندمجان في ذات النفس. والحبّ هو رابطة روحية، وإحساس نفسي، وشعور وجداني يعيش في أعماق النفس، ويتّخذ أشكالاً شتّى من التعبير، كالثناء والتقبيل والتحية والمصافحة والنصيحة والمعانقة ورفع الأذى، والهدية والمصاحبة في السَّير والزيارة، والاحتفاظ بالصورة، وبتبادل كلمات الود، والعيش في مكان مشترك.

ويتجسّد الحبّ في مجـالين اثنين هما: المجال الحسِّي؛ وهو الحبّ المألوف في عالَم الإنسان، وثانيهما المجال الروحي: وهو الحبّ الروحي المتمثِّل في حبّ الإنسان لله وللقيم والمعاني المجرّدة، كقيم الحقّ والعدل.

ولأهمية الحبّ في الحياة، وقيمته في سعادة الفرد والأسرة والمجتمع، اعتبر الإسلام الحبّ قيمة عُليا في رسالته، وهدفاً سامياً من أهدافه، يسعى بشتّى الوسائل لتحقيقه، وتكوينه في النفس البشرية، وإشاعته في المجتمع، وبناء الحياة على أساس الحبّ والمودّة.

ونعرف قيمة الحبّ في الإسلام من تعريف الإسلام للحبّ.. نعرفه عندما يُعرِّف الإسلام نفسه بأنّه الحبّ، وبأنّ الحبّ هو الإسلام، وأنّ قيمة كبرى يسعى لتحقيقها في الحـياة هي الحبّ.. حبّ الله، وحبّ الخير، وحبّ الإنسان.

فالدِّين هو الحبّ، والحبّ هو الدِّين..

هذا التعريف الفريد في عالَم الإنسان للدِّين والحبّ، يُعرِّفنا بمحتوى الدِّين ومحتوى الحبّ.. فالدِّين حبّ لله وللناس وللخير، والحبّ مقدّس عندما ينطلق من حبّ الله، عندما ينطلق من حبّ الخير المطلق والجمال المطلق.

وكم هي البشرية بحاجة إلى حبّ الإسلام، الحبّ المجرّد من الربح والحساب المادّي، الحبّ الروحي والعاطفي الصادق..

ولم تكن مفاهيم الحبّ، قيماً فلسفية مجرّدة، بل جسّدها الإسلام منهجاً عملياً يستوعب قلب الإنسان وروحه وعقله وحسّه ونشاطه وغرائزه. فالحبّ في الإسلام هو:

(حبّ الله، حبّ الوالدين، حبّ الزوجة، حبّ الأبناء، حبّ الوطن والأرض، حبّ الناس، حبّ الجمال، حبّ الطبيعة، حبّ العلم، حبّ الخير.. إلخ).

ومن حبّ الله يبدأ الحبّ في الإسلام. وضّح القرآن هذه الحقيقة الجوهرية في عمق الإسلام، بقوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ الله) (آل عمران/ 31).

وحبّ الله في الإسلام يعني حبّ المؤمنين بالله، وحبّ الخير للبشرية، وحبّ الخير والكمال فيما يفعل الإنسان وفيما يقول ويعايش..

وفلسفة الحبّ الإلهي، هي فلسفة العشق الذي ملأ عالَم الموجودات فشدّها إلى المبدأ، وشوّقها في حركة المادّة والروح للبحث والسعي نحو الكمال..

فصنع روحاً بشرية توّاقة إلى الحبّ والبحث عن الجمال في عالَم المحسوس، وعوالِم القيم والاعتبار..

كما يتجلّى مبدأ الحبّ الإلهي في الخطاب القرآني، وقد ملأ الحياة بعد أن ملأ القلوب والنفوس، وحبّ الله حصانة للنفس البشرية من النزوع إلى الجريمة والعدوان، وتطهير للنفس والوجدان من الحقد والكراهية للحقّ والخير والجمال.

ويعمل الرسول (ص) جاهداً على أن يشيد المجتمع على أساس الحبّ والولاء في الله، فيوضِّح للناس هذه الحقيقة بقوله: "ودّ المؤمنُ للمؤمن في الله من أعظمِ شُعب الإيمان، ومَن أحبَّ في اللهِ، وأبغَضَ في اللهِ، وأعطى في اللهِ، ومَنَعَ في الله، فهو من الأصفياء".

ويأتي بيان نبويّ آخر ليعمِّق الحبّ في النفوس، ويقيم لغة التخاطب على أساس الحبّ، فيعلّم المسلم كيف يفصح عن حبِّه لأخيه، ليشيع في نفسه الحبّ، ويشعره أنّه في مجتمع يكتنفه الحبّ، ولا مكان فيه للحقد والكراهية. قال (ص): "إذا أحبّ أحدكم أخاه، فليُعلِمه إيّاه".

والرسول (ص) لم يبلِّغ أفكاراً نظرية، ولا فلسفة أخلاقية مجرّدة، بل هو حامل دعوة لبناء الإنسان بناءً عملياً. لذا نجده جسّد قيم الحبّ والولاء تجسيداً عملياً حين طبّق مبدأ المؤاخاة بين المسـلمين، فآخى بين كلّ اثنـين منهم، وآخى بين نفسـه (ص) وعليّ بن أبي طالب (ع).

فأصبح المجتمع بعد المؤاخاة صورة للحبّ والأخوّة، وكم تجسّد هذا الحبّ إيثـاراً، فقسّم الأنصـار أمـوالهم، قسماً لأنفسهم وقسماً للمهاجرين، وحين تجسّد الإيثار صورة تفيض بالحبّ والمؤاخاة، أثنى الله سبحانه على صورة الحب الاجتماعية تلك بقوله :

(وَالَّذينَ تَبَوّأوا الدَّارَ وَالإِيمانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِم وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُون) (الحشر/ 9).

وعلى أساس الحبّ يؤسِّس الإسلام الأسرة، فعلى أساس الحبّ تُبنى العلاقة بين الزوجين، وبين الآباء والأبناء. وأصدق ما يجسِّد هذه الروح هو قوله تعالى: (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنْفُسِكُم أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَة) (الرُّوم/ 21).

والرسول (ص) يدعو الرجل إلى أن يُشعِر زوجته بالحبّ ليثبت في قلبها. إنّه يصوِّر عطاء تلك الكلمة الخالدة بقوله: "قول الرجل للمرأة: إنّي أحبّك، لا يذهب من قلبها أبداً".

وفي بحبوحة الأسرة يتحرّك الحبّ، فيملأ قلوب الأبناء، كما ملأ قلوب الآباء. إنّ رسـالة الإسلام تدعو الآباء إلى تربية أبنائهم على الحبّ، فالحبّ حاجة نفسـية يؤدّي فقدها أو نقصها إلى أمراض وحالات نفسية خطيرة؛ لذا دعا الإسلام إلى التعامل مع الأبناء بروح الحبّ، وإشعارهم بتلك العواطف والأحاسيس، لينشأوا على حبّ الآباء، وحبّ كلّ من حقّه أن يعامل بهذه العاطفة.

ويؤكِّد الرسول (ص) على حبّ الأبناء ليؤسِّس في النفوس تلك العواطف الجميلة. ولكي يتحوّل الإحساس بالحبّ علاقة حسِّية بين الآباء والأبناء يدعو الرسـول (ص) الآباء إلى تقبـيل أبنائهم، فإنّه إشعار عملي للآباء والأبناء برابطة الحبّ. كما رُوي عن الرسول (ص) قوله: "مَن قبّل ولدهُ كتبَ اللهُ له حَسَنة".

ولم يكن الحبّ في الإسلام عواطف وأحاسيس وجدانية تربط الإنسان بالله سبحانه، والإنسان بالإنسان فحسب، بل والحبّ رابطة نفسية تربط الإنسان بعالم الطبيعة والأرض والأشياء والجمال.

وما أجمل التعبير النبويّ الكريم عن ذلك حين وصف الخالق العظيم بقوله: "إنّ الله جميل يحبُّ الجمال".

وكم هو جميل تعبير الرسول (ص) عن مشاعر الحبّ في نفسه الكريمة تجاه الأرض والأشياء، وكم هو يسعى في ذلك لأن يصنع من الإنسان روحاً وعواطف تفيض بالحبّ والارتباط مع عالَم الطبيعة والأرض.

روى كُتّاب السِّيَر ورواة الحديث أنّ الرسول (ص) كان يسير في أصحابه فطلع لهم جبل أُحُد، فحين رآه قال: "هذا جبل نحبُّه ويحبُّنا".

وكما أنّ للحبّ جانبه الإيجـابي الكبير في النفس عندما يوجّه توجيهاً سليماً، فإنّ له آثاره السلبية أيضاً عندما يُبالَغ فيه، ومن غير أن يوجّه توجيهاً سليماً.. فالحبّ المفرط للأبناء أو الزوجة أو الأصدقاء، مثلاً ، الذي يستولي على عواطف الإنسان وعقله، الحبّ الأعمى، كما يُقال؛ يقود إلى الإساءة إلى شخصية المحبّ وإلى المحبوب نفسه..

فالحبّ المفرط للأبناء والدّلال، يجعل الآباء يستجيبون لأبنائهم استجابة غير محدودة، ويحجمون عن محاسبتهم على الإساءة، أو منعهم عن ممارستها. كما قد يقود الحبّ المفرط للزوج أو الزوجة، بعض الأزواج، مثلاً، إلى مشاكل عائلية كثيرة، فيقود هذا الحبّ إلى الإساءة إلى بقية أفراد العائلة. أو تصرّف بعضهم تصرّفاً يسيء إلى العلاقة الزوجية ومشاعر الحبّ نفسها.

ونقرأ في الحديث النبويّ الشريف توجيهاً لمشاعر الحبّ، وضبطاً لها. قال الرسول (ص): "أحْبِب حبيبك هوناً ما، فقد يكون بغيضك يوماً ما. وأبغِض بغيضك هوناً ما، فقد يكون حبيبك يوماً ما".►

ارسال التعليق

Top