◄يمثل الهلال أو القمر عملياً، المصدر الثاني أو الأضعف، للضوء، على سطح الأرض بعد الشمس. ويتصف بخصيصتين واضحتين، وإنما نشير إليهما تذكيراً:
الأولى: إنّه يشرق في الليل حين الحاجة إلى الضوء بعد أن تكون الشمس قد غابت والنهار قد زال.
الثانية: إنّه يبدأ صغيراً ثمّ يتكامل على مدى الليالي التالية حتى يصبح بدراً، ثمّ يبدأ بالتضاؤل من جديد إلى درجة المحاق.
والإستهلال، كما هو معلوم، هو محاولة رؤية ذلك الهلال الضعيف في أوائل ساعات ولادته بكل ما أوتيت العين من طاقة وقدرة على الإبصار.
ولهذه الصفات، عدد من التأويلات المعنوية، نشير إلى واحد منها وهو إمكان أن يكون ذلك إشارة إلى إيمان الفرد المؤمن أو النفس الإيمانية الموجودة في باطنه.
بينما الشمس تمثل المصدر الخارجي للإشعاع الإيماني للفرد، وهي الكتاب والسنة أو قل هو: من جاءنا بالكتاب والسنة، وهو نبي الإسلام (ص) عليه وآله وسلم فهم الشمس الحقيقية التي تشع بنور الحقيقة للعالم كله.
فبينما الشمس بهذا المعنى، يكون رد فعلها الإيجابي في نفس الفرد هو القمر. ومن هنا قالوا: إنّ القمر يأخذ نوره من الشمس.
والقمر يشرق في الليل عند حاجة الفرد إلى الضوء، وكذلك الحال في القمر الإيماني المعنوي. فإنّ النفس بعد ممارستها لأمور الدنيا، ستكون في ظلام وغفلة، ولا يكون هنا منفذ في رحمة الله سبحانه وتعالى غير وجود هذا النور الإيماني في قلب الفرد. قال الله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201)، وقال عزّ من قائل: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة/ 257).
كما أنّ الإيمان في قلب الفرد، كالقمر، يبدأ في التسلسل المعنوي صغيراً (هلالاً). ثمّ كلما تقدم الفرد في عمله في الطاعة أو في ثقافته الدينية أو نحو ذلك، إتسع نور الإيمان في قلبه إلى حد يصبح بدراً متكاملاً، يملأ نوره النفس والقلب، يهديها إلى الصراط المستقيم.
والإستهلال، هنا هو المحاولة الجادة لرؤية الدرجة الضعيفة من الإيمان في أوّل وجوده، أو من اليقين في أوّل حدوثه. توخياً من الفرد للعطاء الجديد من الله سبحانه وتعالى، مهما كان قليلاً، وهذا ما يحس به وجداننا في باطن النفس وليس برؤية العين الإعتيادية بطبيعة الحال.
وكذلك يستمر الفرد المؤمن يراقب نمو الهلال، والنور الإيماني في نفسه، وتحصل له البهجة بذلك، قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس/ 58).
والبدر الإيماني في داخل النفس، بعد حصوله وتكامله، لا يكون قابلاً للأفول والنقصان، بل هو بدر مستمر وخالد وليس كالقمر الإعتيادي يعود صغيراً في كل شهر. لأنّ القمر الإيماني إنّما هو من درجات الجنة. و(أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (يونس/ 26). قال: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (الأحزاب/ 65). وقال: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) (ق/ 35).
إلا أننا مع ذلك لا نعدم الفهم الرمزي للتضاؤل التدريجي إلى حد يصل إلى المحاق كالقمر الطبيعي.
وذلك أن درجات التكامل الإيماني لا متناهية فإذا وصل الفرد إلى حصول البدر الكامل في نفسه، إستحق لا محالة الخطوة التي بعده، وهي الإقتباس من الشمس مباشرة، من المعين الحقيقي للعطاء الإلهي.
وبمقدار ما تقدم الفرد في هذا السبيل، فإنّ أهمية البدر السابق في نفسه تتضاءل تدريجاً، ويصبح ملتفتاً بكله إلى نور الشمس، ومعطياً له الأهمية الواقعية والقصوى. وبذلك يتضاءل البدر إلى أن يزول، بمعنى زوال أهميته تماماً، بإشراق الشمس في نفس الفرد عوضاً عن البدر.
وبذلك يحصل المحاق، لأنّ شمس الحقيقة إذا أشرقت على القلب، لا يبقى للأنانية أي وجود، بل تُمحى وتُمحق لا محالة. قال تعالى: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) (الإسراء/ 12). ونستطيع أن نفهم من آية الليل: القمر، لا الليل نفسه، كما نستطيع أن نفهم من آية النهار: الشمس، لا النهار نفسه.
وقال تعالى: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الشورى/ 24).
ومما له ربط بهذا الصدد من الآيات قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ...) (الزمر/ 68-69).
ويستمر السياق القرآني نفسه إلى أن يقول جلّ جلاله: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (الزمر/ 73-74).
ارسال التعليق