◄إنّ الدقة والعمق في فهم المادّة المقروءة، والغوصَ على المعاني، واستشفاف المقاصد الكامنة وراء السطور، كلّ ذلك من المطالب الملقاة على عاتق القارئ الناضج، ولن يتيسر له ذلك إلّا بواسطة (القراءة البطيئة) التي تتيح له التوقفَ عند بعض النصوص المستغلقة، والتعابير الغامضة، والتأملَ فيها، كما تتيح له فرصة التمتع بنص شعري، أو أدبي، أُعجب ببلاغته وجماله، أو بفكرته الجديدة، فتراه يقف عنده، ويردده ليتذوقه، ويستمتع به، ويحفظه.
أما إن كان القارئ، يحقق نصاً تراثياً مخطوطاً، أو نصاً علمياً صعباً، فإنّه إلى التأني والبطء في القراءة أحوج، إذ ربما اضطره النص إلى التوقف عند سطر واحد، أو كلمة واحدة أياماً طوالاً، يراجع لأجلها العديد من المراجع، حتى يطمئن إلى صحّة ما ذهب إليه.
وقل مثل ذلك في قراءة الدارس الذي يعكف على المواد المقروءة، يجيل فيها النظر، ويكرره حتى يهضمها، ويعتصر خلاصاتها، يربط بين أفكارها.
وهكذا نجد أنّ القراءة المتأنية البطيئة، ضرورية جداً في بعض الحالات، لكننا، ونحن نعيش (عصر المعومات)،
الذي تضخم فيه حجم المعومات، وتنوعت طرق تقديمها، وأساليب عرضها، ولم تعد العلوم فيه مقتصرة على عدد من المتون ، وعدد من الشروح والحواشي، إذا حصلها الإنسان، وأضاف إليها بعض خوالد كتب الأدب، والمعلقات الشعرية، يصقل بها لغته، وذوقه الجمالي، يكون قد احتوى العلم من كلّ أطرافه.
إنّ الكم الهائل من المطبوعات التي تغمرنا بها المطابع، ومن المعلومات التي تنتجها مراكز الأبحاث، والمؤلفات التي تجود بها قرائح الكتاب والمؤلفين... كلّ ذلك يبرز الحاجة الملحة إلى طرائق أسرع تمكننا من التهام هذا السيل العرِم، كي نكون قادرين على مواجهة تضخم الثقافة في عالمنا المعاصر، وعدم التخلف عن ركاب العلم... وقد طرحت هذه الطرائق وعُبر عنها بأشكال مختلفة:
فهنالك (التحليق فوق النص): وهو التعبير الذي يطلق على تقنية يستعملها معظم القراء الناضجين، ويمكن تعريفها بأنّها: التصفح السريع للنص بغية الحصول على هدف معين منه.
وهنالك (القراءة الخاطفة): التي تتيح للقارئ أن يلم بموضوع الكتاب واتجاهه ومنهجيته؛ بالنظر في مقدمته وخاتمته وفهارسه، مع تصفحه بسرعة.
وهنالك ما يسمى (قراءة ما بين السطور)؛ التي ينصح بعض المربين بالتدرب عليها، من أجل تلمس ما يوحي به النص في أسرع وقت ممكن.
وإحدى الطرق المقبولة للتعجيل بالقراءة تقوم على (التصفح السريع للنص) بشكل ندرك فيه مقصد الكاتب، ونميز أفكاره الرئيسية، فلا نقرأ كلّ كلمة، بل نلمس سطح النص لمساً رقيقاً، ونحن على بينة من أنّ بعض جوانب هذا النص يمكن أن يفوتنا.
ويشبه ذلك ما ينصح به بعض المربين القارئ المدرَّب بأن يدفع عينيه (عبر الصفحة) بأقصى سرعة يسمح له بها فهمه، وربما فاته شيء بسبب سرعته، أو بسبب قلة تركيزه، إذ المرء لا يقرأ بكفاءة متساوية طيلة الوقت، فسوف يدرك بحسه المرهف المواضع التي فاتته من النص فيعود إليها.
ويصف البعض (القراءة السريعة) بأنّها تعتمد على إدراك (الجملة) وفهم معناها بالنظرة الواحدة الشاملة، دون قراءتها كلمة كلمة، فهو يتعرّف على مجموعات الكلمات بشكلها العالم ومعالمها المميزة، بوصفها وحدات إجمالية، ويسير (على السطر) بالسرعة التي يستطيع بها أن يدرك المعنى، وحين يصادف كلمة جديدة أو غير مألوفة، فإنّه يتوقف هنيهة ليستخرج معناها من السياق، وكلمت ازدادت ألفته لما يقرأ قلت وقفاته.
إنّ هذه الطريقة تساعد كثيراً على سرعة القراءة، بحيث يتعوّد القارئ على قراءة الجملة دفعة واحدة، فيلتقطها ذهنه دفعة واحدة، دون التوقف عند كلّ كلمة منها، وكلّ حرف.
وخلاصة القول في مسأله السرعة في القراءة هي أنّ القراءة السريعة لا تعتمد على مقدرة القارئ على فهم النصوص فحسب، بل تمتد لتشمل هدف القارئ من قراءته، ومستوى ذكائه، وخيرتَه، وانقرائيةَ المادّة، وحالة القارئ النفسية والفيزيولوجية، ومدى سيطرته على مهارات القراءة، وطريقة صوغ المادّة المقروءة.
والقارئ الجيد هو الذي يستطيع أن يلائم بين غرضه من القراءة وبين سرعته فيها؛ وتكون لديه المقدرة على أن يسير في قراءته بسرعات مختلفة حسب متطلبات المادّة المقروءة والغرض من القراءة.
فأنت تراه حين يتخذ بصورة لا شعورية، قبل وأثناء القراءة، قراره بشأن أكثر السرعات ملاءمة للنص، مثل قائد السيارة الذي تتحرك يده لا شعورياً لاختيار السرعة الملائمة لمتطلبات الطريق:
فمادة قانونية، أو مسألة رياضية، أو صيغة كيميائية، تتطلب قراءة متأنية وتركيزاً على كلّ كلمة أو عنصر، بينما تستطيع أن تنطلق بسرعة في قراءة رواية خفيفة، وأن تحوم حول عناوين صحيفة يومية، وأن تحلّق فوق نص أدبي أو تاريخي، وأن تقفز فوق صفحات دليل للهاتف أو معجم لغوي، بحثاً عن اسم أو كلمة.►
المصدر: كتاب القراءة... أوّلاً
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق