• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مفهوم شامل للحياة في سورة البقرة

أ. د. محمّد أديب الصالح

مفهوم شامل للحياة في سورة البقرة

المجتمع الإسلامي عندما يتحرك للبناء وتنمية الطاقات الذاتية فيه، في مواكبة للتطور، وتنوُّع الوقائع والأحداث: يترك -كما هو الأصل- ضمن مفهوم شامل لبناء الحياة والإنسان، لا يدع المادة للروح ولا الروح للمادة، كما لا يدع الآخرة للدنيا ولا الدنيا للآخرة، وإن كانت الحقيقة في ذلك أنّ العمل للدنيا إذا حسنت النيات، وحُكمت ضوابط الشريعة وأخلاقها: يصبح عملاً أخروياً في ميزان دين الإسلام والحمد لله.

وما حكاه القرآن على لسان قوم موسى (ع) لقارون يلقي الضوء على هذه الفكرة ويجعلها في غاية الوضوح ذلكم قوله تعالى في سورة القصص: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 76-77).

هذه واحدة، وأما الثانية -وهي الأهم-: أنّ الله الذي خلق وقدّر وسخّر ما سخّر للإنسان في هذا الكون: قد تعبَّد الخلق بطاعته فيما شرع لهم في أمور الدنيا والآخرة، من نظام يتسم بمنتهى الحكمة والدقة والإحاطة ووضع كلّ أمر موضعه في علاقة الإنسان بالكون والحياة، وفق سنن إلهية حكيمة (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) (الأحزاب/ 62).

وذلك ما دلَّت عليه معالم الكتاب العزيز الذي أحكمت آياته ثمّ فصلت من لدن حكيم خبير. وبيانها من السنة النبوية المطهَّرة في أقوال الرسول (ص) وأفعاله وإقراره، ناهيك عن الواقع العملي الذي أنشأته حضارة الإسلام، والذي كان ترجمة أمينة لقيم الإسلام التي أوحى بها السميع العليم جلّ شأنه إلى نبيه (ص).

والمهم على سبيل القطع واليقين: أن يكون المنطلق في حركة البناء الشامل للفرد والجماعة: تحقيق العبودية لله عزّوجلّ الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، والذي خلق وقدَّر وسخَّر، وأن تكون تلك الحركة على النهج الذي يحقق عمارة الأرض لخير الإنسان، والتمكين فيها للمؤمنين الذين يحملون رسالة الحق والخير، ويتيح الفرصة للإنسان في تحقيق وجوده الذاتي حرِّية وكرامة وقدرة على وضع الطاقات في قنواتها المناسبة، وأن يكون على الجادة التي تضمن له السعادة في الدين والدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين.

والتنويه بهذه الحقائق نقع عليه في كثير من آي الفرقان الحكيم؛ من ذلك على سبيل المثال -لا الحصر- ما نقرأ في سورة البقرة -بدءاً من الآية الثانية والعشرين- من قول الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 21-22).

إنّ العبادة الحقة عملاً بقوله تعالى: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) إنّما تكون بطاعة الله تعالى في أمره ونهيه، والوقوف عند حدوده فيما تعبَّد العباد وشرع لهم!

ففي الآية الأولى هنا: نداء منه سبحانه للناس وأمر لهم أن يعبدوا ربهم الذي يتولاهم -وهو العليم بما يصلحهم- بعونه ورعايته، وهو –جلّ شأنه– الجدير بالعبادة والإذعان لأمره؛ لأنّه خالق البشر السابقين واللاحقين؛ لعلهم يظفرون بأن يكونوا من المتقين، أولئك الذين يتقون الله بوضع وقاية -من الطاعة والبعد عن المعصية والمخالفة بحسن نية وإخلاص- تقيهم غضب الله وعقابه وتقربهم إليه (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

 فعبادته -وهو الذي يعلم ما يسرُّ عبادُه وما يعلنون- بتحقيق الطاعة المطلقة فيما تعبَّد عباده: هي الطريق لمرضاته واتقاء سخطه وعقله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

 والذي يدل على الشمول الذي سبق الإلماح إليه، وأنّ الله قد تعبّد خلقه بما شرع لهم من منهج حكيم ينظم شؤون الدنيا والآخرة: قوله تعالى في الآية التي تلت: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

 وإذاً فالسعي والكدح، والأخذ بالأسباب لعمارة الأرض، والإفادة مما سخَّر الله للإنسان في هذا الكون العريض، كل أولئك من الأمور المقررة في منهج البناء الذي دعا إليه القرآن الكريم؛ ألم تر إلى هذه الآية الكريمة كيف تذكر بنماذج من النعم التي هي مقومات أساسية لحركة الحياة، وإقامة البنية الذاتية المحكمة للمجتمع في اقتصاده واجتماعه وقدرته على العطاء؛ ولكن لابدّ أن يكون المنطلق -تصوراً وتطبيقاً- طاعة الله تعالى فيما تعبَّد به خلقه.

فالذي جعل الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لعباده -على سعة الدلالات التي تحملها هذه الكلمات الجوامع من منظور العلم- والذي استودعهم مفاتيح الإفادة من الخلق والتسخير الشامل: هو الجدير بأن يفرد بالعبودية، وأن يطاع فيما شرع من أحكام تنظم شؤون الدنيا، وتهيىء السبل لعمارة الأرض على الوجه الذي يضمن الحفاظ على إنسانية الإنسان وحرِّيته وكرامته، مع تيسير الانتفاع بالوسائل العلمية والعملية مما أودع الله في الأرض من خيرات وثرواتُ الله (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

أجل لا يصح بحال من الأحوال أن تجعلوا له أنداداً في العقيدة، ولا أن تجعلوا له أنداداً في الشريعة والأحكام.

والنتيجة الحتمية لهذه المقولة في الهدي الرباني –وهي مقولة سداها الحق، ولحمتها الحق– أن تتحرك خلايا البناء من هنا وهناك، أخذاً بالأسباب العلمية والعملية على قاعدة من الإيمان الذي لا تشوبه شائبة، واستنفاداً للطاقات البشرية والطاقات، وأن تبذل العناية، وتهيأ السبل الكفيلة بتنمية الحوافز التي تدفع إلى العمل تحقيقاً لطاعة الله تعالى فيما تعبَّد عباده.

وبذلك تأخذ عملية البناء عمومها وشمولها في ظل الروح والريحان اللذين تشيعهما العبودية الخالصة لله عزّوجلّ.

ومن ألوان هذا العموم: السير مع أحقية الخطاب التكليفي في الشريعة الذي يشمل بشكل واضح المرأة والرجل جميعاً، والله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى بعضهم من بعض، وهو وليُّ العاملين المخلصين.

 

  المصدر: كتاب بناء الأُمّة ومواجهة التحديات

 

ارسال التعليق

Top