◄السِّلم كلمة واضحة المعنى، تعبِّر عن ميل فطري في أعماق كلّ إنسان، وتحكي رغبة جامحة في أوساط كلّ مجتمع سوي، وتشكّل غاية وهدفاً نبيلاً لجميع الأُمم والشعوب. والسلم من السلام وأصله السلامة أي البراءة والعافية والنجاة من العيوب والآفات والأخطار. ويطلق السلم بلغاته الثلاث السِّلم والسَّلم والسَّلَم على ما يقابل حالة الحرب والصراع. قال ابن منظور: السَّلم والسِّلم: الصلح، وتسالموا: تصالحوا، والخيل إذا تسالمت تسايرت لا تهيج بعضها بعضاً.
والتسالم: التصالح. والمُسالمة: المصالحة. وحكي السِّلم والسَّلم: الاستسلام وضد الحرب. وكمثال على إطلاق السِّلم كحالة مقابلة للحرب والقتال يمكن الاستشهاد بقول عباس بن مرداس: السِّلم تأخذ ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جزع وتقول العرب: أسلم أم حرب؟، أي أنت مسالم أم محارب؟. قد يكون الحديث عن السِّلم أو الحرب على صعيد علاقة المجتمع بمجتمعات أُخرى. أو يكون على مستوى الوضع الداخلي للمجتمع والعلاقات القائمة بين أجزائه وفئاته. فهناك مجتمع يعيش حالة احتراب وصراع داخلي، ومجتمع تسوده أجواء الوئام والانسجام والوفاق. وحديثنا عن السِّلم الاجتماعي نقصد به حالة السِّلم والوئام داخل المجتمع نفسه وفي العلاقة بين شرائحه وقواه. إنّ من أهم المقاييس الأساسية لتقويم أي مجتمع، هو تشخيص حالة العلاقات الداخلية فيه، فسلامتها علامة على صحّة المجتمع وإمكانية نهوضه، بينما اهتراؤها دلالة سوء وتخلُّف.
يقول المفكّر مالك بن نبيّ: نستطيع أن نقرّر أنّ شبكة العلاقات هي العمل التاريخي الأوّل الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده. ومن أجل ذلك كان أوّل عمل قام به المجتمع الإسلامي هو الميثاق الذي يربط بين الانصار والمهاجرين. ثمّ يشير بن نبيّ إلى أنّه كما كانت العلاقات الداخلية السلمية هي نقطة الانطلاق في تاريخ المسلمين، فإنّ تدهورها كان مؤشّر السقوط والانحطاط: لقد كان المجتمع الإسلامي إبّان أُفوله غنيّاً، ولكنّ شبكة علاقاته الاجتماعية قد تمزّقت. وهكذا الأمر دائماً، فإذا تطوّر مجتمع ما على أيّة صورة، فإنّ هذا التطوّر مسجَّل كماً وكيفاً في شبكة علاقاته.. وعندما يرتخي التوتر في خيوط الشبكة، فتصبح عاجزة عن القيام بالنشاط المشترك بصورة فعّالة، فذلك أمارة على أنّ المجتمع مريض، وأنّه ماضٍ إلى النهاية. أمّا إذا تفككت الشبكة نهائياً، فذلك إيذان بهلاك المجتمع. وحيئنذ لا يبقى منه غير ذكرى مدفونة في كُتُب التاريخ. ولقد تحين هذه النهاية والمجتمع متخم بالأشخاص والأفكار والأشياء. كما كان حال المجتمع الإسلامي في الشرق، في نهاية العصر العباسي، وفي المغرب في نهاية عصر الموحِّدين. جاء الإسلام دعوة للسِّلم والسلام على مستوى العالم أجمع والبشرية جمعاء ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ﴾ (يونس/ 25) وقد تكرّر الحديث عن السِّلم والسلام في أكثر من خمسين آية في القرآن الكريم. يقول تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ﴾ (المائدة/ 16). ويقرّر القرآن الكريم أنّ المبدأ الأساس في العلاقات بين البشر هو مبدأ السِّلم والتعاون يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات/ 13). كما يوجّه الإسلام الأُمّة المسلمة إلى انشاء العلاقات السلمية القائمة على البرّ والقسط والإحسان مع الأُمم الأُخرى، أمّا المواجهة فهي محصورة في حدود مَن يمارس العدوان ضد الإسلام والمسلمين، أو يمنع حركة الدعوة إلى الله تعالى، يقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة/ 190). ويقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة/ 8) وحتى لو نشبت الحرب والمعركة مع المعادين المعتدين فإنّ الإسلام يشجّع على اغتنام أي فرصة لإيقاف الحرب والقتال إذا ما أظهر الطرف الآخر إرادته في التراجع عن عدوانه والرغبة في إقامة علاقات سلمية. يقول تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ (الأنفال/ 61).
ويقول تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ (النِّساء/ 90)، ويقول الإمام عليّ (ع) في عهده لمالك الأشتر: «ولا تدفعن صُلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رِضى، فإنّ في الصُّلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك».
السِّلم الداخلي وإذا كانت هذه دعوة الإسلام على المستوى العالمي وفي العلاقة بين الأُمّة وسواها، فمن الطبيعي أن تكون أكثر تأكيداً وإلحاحاً على الصعيد الداخلي. لذلك تناولت العديد من آيات القرآن الكريم وتشريعات الإسلام قضية الوحدة والوئام والسِّلم ضمن الكيان الإسلامي.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء/ 92)، ويقول تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران/ 103). وفي إشارة واضحة إلى الآثار التدميرية للنزاع الداخلي يقول تعالى: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال/ 46). فنتيجة النزاع الفشل وانهيار القوّة. أمّا الآية الكريمة رقم 208 من سورة البقرة فهي أمر واضح ودعوة صريحة للالتزام بالسلم الاجتماعي، وتقرير له كشعار للمجتمع، وتحذير من الانزلاق عن مساره. يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.
ورغم أنّ أكثر المفسِّرين قالوا بأنّ المقصود من السِّلم في الآية الكريمة هو الإسلام والطاعة لله، إلّا أنّ بعض المفسِّرين رجَّح أن يكون المقصود هو السِّلم بمعناه اللغوي أي الصلح والمسلمة وترك النزاع والاحتراب داخل المجتمع. وهو الرأي الراجح بالفعل. ونقتطف من كلام الشيخ محمّد الطاهر بن عاشور في تفسير التحرير والتنوير حول هذه الآية الكريمة الفقرات التالية: حقيقة السِّلم الصُّلح وترك الحرب. وقالوا يطلق السِّلم بلغاته الثلاث (السِّلم، السَّلم، السلم) على دين الإسلام ونسب إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة وانشدوا قول امرئ القيس بن عابس الكندي في قضية ردة قومه: دعوت عشيرتي للسِّلم لما رأيتهموا تولوا مدبرينا فلست مبدلاً بالله ربّاً ولا مستبدلاً بالسِّلم دينا وهذا الإطلاق انفرد بذكره أصحاب التفسير ولم يذكره الراغب في مفردات القرآن ولا الزمخشري في الأساس وصاحب لسان العرب وذكره القاموس تبعاً للمفسِّرين، وذكره الزمخشري في الكشاف حكاية قول في تفسير السِّلم هنا فهو إطلاق غير موثوق بثبوته، وبيت الكندي يحتمل معنى المسالمة أي المسالمة للمسلمين ويكون قوله (دينا) بمعنى العادة اللازمة كما قال المثقب العبدي يذكر ناقته: تقول وقد درأت لها وضيني أهذا دينه أبداً وديني والوضين: بطان منسوج بعضه على بعض يشدّ به الرحل على البعير، أراد أنّه سريع الحركة. فكون السِّلم من أسماء الصُّلح لا خلاف فيه بين أئمّة اللغة، فهو مراد من الآية لا محالة وكونه يطلق على الإسلام إذا صحّ ذلك جاز أن يكون مراداً أيضاً ويكون من استعمال المشترك في معنييه. ويجوز أن يكون المراد من السِّلم هنا المعنى الحقيقي ويُراد السِّلم بين المسلمين يأمرهم الله تعالى بعد أن اتصفوا بالإيمان بأن لا يكونوا بعضهم حرباً لبعض كما كانوا عليه في الجاهلية.
وممّن رجّح هذا الرأي الشيخ محمّد جواد مُغنية من علماء الإمامية. قال في التفسير الكاشف: قيل المراد بالسِّلم هنا الإسلام، وقيل: معنى السِّلم الصُّلح، والمعنى ادخلوا في الصُّلح جميعاً. والذي نراه أنّ الله سبحانه وتعالى أمر مَن يؤمن به إيماناً صحيحاً أن يدخل في ما فيه سلامته في الدُّنيا والآخرة، وطريق السلامة معلوم لدى الجميع، وهو التعاون والتآلف، وترك الحروب والخصام. ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ بعد قوله بلا فاصل ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ حيث اعتبر الله سبحانه خطوات الشيطان الطريق المضاد للسِّلم، ووضع الإنسان أمام أمرين لا ثالث لهما: إمّا الدخول في السِّلم، وإمّا اتّباع خطوات الشيطان التي هي عين الشقاق والنزاع والشرّ والفساد.
واخيراً: فإنّ صفاء أجواء المجتمع من العداوات والصراعات، يجعله مهيَّئاً للتعاون والانطلاق، ويحفظ قوّته من الهدر والضياع، لذلك كان من الطبيعي أن تسعى القوى المناوئة لأي مجتمع من أجل تمزيق وحدته وإثارة العداوات بين فئاته، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) (المائدة/ 91).
مقومات السِّلم الاجتماعي ـ العدل والمساواة: المجتمع الذي يتساوى الناس فيه أمام القانون، وينال كلّ ذي حقّ حقّه، ولا تمييز فيه لفئة على أُخرى، هذا المجتمع تقل فيه دوافع العدوان، وأسباب الخصومة والنزاع.
ويصوِّر لنا الحديث النبويّ مدى اهتمام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتربية أصحابه على التزام العدل والمساواة بين أولادهم حتى لا يكون التمييز بين الأبناء سبباً للعداوة والضغائن في ما بينهم.
يقول الإمام عليّ (ع) مخاطباً أحد ولاته: «استعمل العدل واحذر العسف والحيف، فإنّ العسف يعود بالجلاء، والحيف يدعو إلى السيف». وهكذا فإنّ العدل يقي المجتمع أخطار التمزّق والفتن، وجميل جدّاً ما رُوِي عن رسول الله (صلى الله عليه وآل وسلم) أنّه قال: «العدل جنّة واقية وجنّة باقية» فالعدل في الدُّنيا وقاية من الأخطار، وفي الآخرة نعيم وثواب في جنان الخلد.
ضمان الحقوق والمصالح المشروعة لفئات المجتمع: فإذا كان المجتمع يعيش نوعاً من التنوّع والتعدّد، في انتماءاته العرقية أو الدينية أو المذهبية أو ما شاكل ذلك من التصنيفات، فيجب أن يشعر الجميع وخاصّة الأقليات بضمان حقوقها، ومصالحها المشروعة، في ظل النظام والقانون ومن خلال التعامل الاجتماعي، وفي حديث آخر: «مَن ظلم معاهداً، أو انتقصه حقّاً، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة». هكذا يرعى الإسلام حقوق ومصالح مَن ينتمي إلى دين آخر ويعيش في كنف المجتمع الإسلامي.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق