في أجواء الشهر الكريم، تسكن النفس، وتلجأ أكثر إلى خالقها، متلمسةً منه كلّ فضل وبركة ولطف. ولیس فقط في زمن الصوم، تأبى النفوس العزيزة المؤمنة أن تنغمس في الباطل، أو أن تسير فيه أو في الظلم أو قطيعة الأرحام، أو الاستعلاء على الناس، أو منع البرّ والرِّزق عن المحتاجين، أو التعدّي على حقوق الآخرين وحرماتهم وأرزاقهم وأعراضهم، بل هي على الدوام تلك النفوس المستبشرة بالخير، والمتفائلة برحمة الله وتوفيقه وتسديده، دائمة النظر إلى ما يصلحها ويدفعها إلى الأمام، فلا تفكِّر فيما ارتكبت من آثامٍ فيما مضى، بل هي النفوس التائبة العاملة بإخلاصٍ لتكون من أهل توحيد الله وعبادته حقَّ عبادته، والتي تفترض أن تستثمر كلَّ الأوقات، وبخاصّة زمن الصوم الفضيل، من أجل أن تجعل من الصوم فرصةً للوقاية من الذنوب والمعاصي والإقلاع عنها، مهما كانت كبيرةً أو صغيرة.
إنّ عملية التهذيب والتربية الروحية والأخلاقية للنفس، تأتي عبر التصميم والتخطيط والوعي والقناعة، واعتماد خطوات متدرجة، وسلوك طرق معيّنة، من خلال تعويد النفس على القول الطيِّب، والفعل الحسن، ومصاحبة الأخيار، والتحلّي بالحكمة في قبول الأفكار، وتمييز الحقّ من الباطل، والتخلّق بأخلاق الله والتزام حدوده، مهما كانت الصعوبات والتحدّيات. تزكية النفس تفتح مداركها على كلّ حقّ وعدل في العلاقات والأوضاع، بحيث يعدل الزوج مع زوجته، ويعدل الأهل مع أولادهم في التربية الحسنة، والتعامل السليم معهم، ويعدل الرفاق مع رفقائهم، فيحسنون إليهم في الودّ والمعاملة، ويعدل المرء مع نفسه، فيبعد عنها السطحية والتبعية للهوى والمنفعة الخاصّة.
لقد أراد الله تعالى للمجتمع أن يعيش التزكية تصرفاً وسلوكاً عملياً، بحيث يتحوّل المجتمع كلّه إلى مجتمع نقيّ وخالص من المشاعر المنحرفة، ومن الكراهية والنفاق والغشّ والكذب والتضليل، أن يكون مجتمعاً يتوجّه بكلّ أفراده إلى ما يرضي الله في حركته وموقفه، مجتمعاً يعتمد الحقّ، ويبتغي الحقيقة، ويحيا الوحدة والمصالحة والسلام.
إنّ الله تعالى يحبّنا أن نكون متحابين في الله، وقلوبنا تعمرها الرحمة، وتسكنها المحبّة والسلامة. من هنا، نحن بحاجة إلى تزكية نفوسنا فعلاً لا قولاً، وأن نجاهد أهواءنا مهما استطعنا، وأن نوطّن نفوسنا على الخير، ونعدّ العدّة الكافية من أجل الوقوف السليم بين يدي الله تعالى للحساب، فالله تعالى يريد لقلوبنا أن تكون خالية من العقد والأمراض، ويريد لعقولنا أن تتحرّك في سبيل الخير وإقامة العدل في الحياة. علينا السعي والاجتهاد في تهذيب النفس وتربيتها على الطاعات، والإفادة من أعمالنا الصالحة في تعميق الإيمان بالله، والارتباط به عبر خدمة الناس والتحبّب إليهم والإحسان إليهم، فكلّما كنّا مخلصين لله أكثر، كنّا الفاعلين للخير أكثر، والعادلين أكثر مع أنفُسنا والحياة من حولنا. فأفضل نصيب لنا، أن نفوز برضوان الله وغفرانه، لما قدّمته أيدينا من سيِّئات، وأن نبتعد عن سخطه، عبر التزام حدوده وفرائضه وكسب الخيرات، فمن يحرم من فرصة التوبة والإنابة إلى الله في هذا الشهر، لن يكون له نصيب من الصوم سوى الامتناع عن الأكل والشرب، فيما المطلوب صوم نحصل منه على غفران الله بحقّ، حيث قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «الشَّقيَّ مَن حُرِمَ غفران اللهِ في هذا الشهرِ العظيمِ». وليكن دعاؤنا: « وأن نتقرَّبَ إليك فيهِ من الأعمالِ الزاكيةِ بما تُطهِّرُنا به من الذنوبِ، وتعصِمُنا فيه ممّا نستأنِفُ من العُيُوبِ، حتى لا يُورِدَ عليك أحدٌ من ملائكتِك إلّا دون ما نورِدُ من أبوابِ الطاعةِ لك، وأنواعِ القُربةِ إليك..».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق