• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

من وصايا رسولنا محمد (ص)

جاد الحق علي

من وصايا رسولنا محمد (ص)
◄1- احفظ الله، يحفظك:
هذه واحدة من وصايا رسول الله (ص) لعبد الله بن العباس (رض) كما جاءت في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد في مسنده.
وحفظ الإنسان المسلم ربه – عزّ وجلّ – هو إمتثال أوامره وإجتناب نواهيه، ورعاية حقوقه والوقوف عند حدوده، والوفاء بعهوده، فلا يتعدى المسلم ما أمره الله به إلى ما نهاه عنه، أو لا يراه الله حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره.
احفظ الله يحفظك: إقامة دين الله وشريعته التي إرتضاها لعباده في كل أمر وحال وحين، قولاً وعملاً وعلماً، فإذا ما إمتثل المسلم ذلك طيعاً لله مخلصاً لا يبتغي إرضاء غير الله، تولى الله حفظه مما يضره في دينه ودنياه، جزاءً وفاقاً لما قدم من صالح الأعمال.
ذلك لأنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
وهذا هو القرآن ينادي المسلم ويدعوه إلى طاعة الله وطاعة رسول الله حتى ينال ثوابه، ويدخل في حفظه، فيقول – سبحانه – في سورة الأحزاب: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا) (الأحزاب/ 71).
وفي سورة الفتح: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا) (الفتح/ 17).
وفي سورة التوبة وصف المؤمنين بقوله: (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة/ 112). أي أنهم عرفوا معالم شريعة الإسلام فحفظوها وما ضيعوها.
وفي سورة النحل: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا) (النحل/ 91).
وفي سورة الإسراء: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا) (الإسراء/ 34).
وفي سورة النساء: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء/ 115).
ومن أعظم ما تجب المحافظة عليه في المأمورات الصلوات الخمس في أوقاتها، ذلك قول الله سبحانه في سورة البقرة: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (البقرة/ 238). أي خاشعين مطيعين لا تلهكم تجارة ولا بيع ولا لهو ولا لغو، ولا يشغلكم شاغل عنها متى حان وقتها، إذ أداؤها في أوقاتها من صدق الإيمان وحسن الإسلام على ما يشير إليه قول الله – سبحانه – في صفات المؤمنين في سورة المؤمنون (وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون/ 8).
وكما جاء في الأثر في الحفاظ عليها: "من حافظ عليهن كن له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة..".
ولما كان مفتاح الصلاة الطهارة وجبت المحافظة عليها إمتثالاً لقول الله – سبحانه – في سورة البقرة: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222)، وهكذا يكون حفظ أوامر الله بأدائها على الوجه الذي فرضه الله وارتضاه مع سائر أسس الإسلام.
وحفظ المؤمن حرمات الله صونه نفسه عن الوقوع فيها وذلك من فروض الإسلام، فليحفظ المسلم لسانه عن الخوض فيما حرم الله من الكذب والغيبة والنميمة، وقول الزور والباطل وفحش القول، وإشاعة الفاحشة ونشرها، وليحفظ بصره وفرجه من الآثام والمعاصي. ذلك قول الله في سورة النور (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) (النور/ 30)، وقوله في سورة الأحزاب ثناء على من أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ) (الأحزاب/ 35).
وفي الحديث الذي أخرجه البخاري: "من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة". وحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى من واجبات المسلم؛ إذ عليه أن يحفظ عقله وفؤاده من الأباطيل والضلالة ويحفظ بطنه مما حرمه الله من المطعومات والمشروبات المحرمة وسائل المنكرات، ذلك قول الله في سورة الإسراء (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36).
والأيمان مما يجب حفظها والوفاء بمقتضاها المشروع، ذلك قول الله – سبحانه – في سورة المائدة (.. وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) (المائدة/ 89).
شواهده في كتاب الله سبحانه، فإذا حفظ المسلم حقوق الله وحافظ عليها، حفظه الله في مصالح دينه ودنياه نعمة من الله وفضلاً وجزاءً من جنس العمل. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان..
ذلك قول الله – سبحانه – في سورة البقرة: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة/ 152)، وفي سورة محمد: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) (محمد/ 7). وفي سورة البقرة: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة/ 40)، وقول الله – تعالى – في سورة الطلاق: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ...) (الطلاق/ 2-3)، بل ويمتد الحفظ من الله للعبد الذي حافظ على أداء أوامره واجتناب نواهيه إلى حفظ أولاده وذريته كما جاء في قول الله في سورة الكهف (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) (الكهف/ 82).
فهل لنا أن نحفظ هذه الوصية من رسول الله (ص) ونحافظ على العمل بها والقيام بحقوقها فنحفظ دين الله؛ الإسلام بحمايته من العقائد الداخلية الزائفة والبدع المضلة والشهوات المحرمة والأفكار التي تزيغ بها الأفئدة.
نعم أيها المسلم وأيتها المسلمة "احفظ الله يحفظك".
هذه هي الوصية الثانية من وصايا رسول الله (ص) لعبد الله بن العباس التي وردت في مسند الإمام أحمد: "احفظ الله تجده تجاهك"، وفي رواية "أمامك".
والمراد – والله أعلم – أنك أيها المسلم وأيتها المسلمة إذا اتقيت الله – سبحانه – فامتثلت أوامره وإجتنبت ما نهى عنه وراعيت حدود وحقوقه، ووصاياه وعهوده، في سرك وعلنك، وفي عبادتك لربك، ومعاملتك مع غيرك وجدت الله معك في جميع أحوالك، يحوطك ويرعاك وينصرك ويحفظك، ويؤيدك ويوفقك، ويسدد خطاك نحو الخير الذي ترتجيه، فإنّه سبحانه – قائم على كل نفس بما كسبت.
ذلك ما يشير إليه قول الله – سبحانه – في سورة النحل: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل/ 128).
وهذه المعية للمسلم خاصة لا ينالها إلا المتقون من عباد الله، وهي تفيض بالرضا والرعاية والحفظ والمعونة والتأييد واللطف والرحمة والإكرام والنصر منه سبحانه – ألا تراه قد قال لموسى وهارون (ع) كما جاء في سورة طه: (لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه/ 46)، وقال في سورة التوبة في شأن رسول الله محمد (ص) وصاحبه الصديق: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة/ 40)، وكان رسول الله (ص) قد قال لصاحبه في الغار يطمئن قلبه إلى أنّ الله حافظ مسيرتها إلى المدينة: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"..
تلك معينة الحفظ والصون والحماية والعون، أما المعية التي أشار إليها قول الله – سبحانه – في سورة الحديد: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (الحديد/ 4)، وفي سورة المجادلة: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا...) (المجادلة/ 7)، هذه المعية معية علم وإحاطة بأحوال المخلوقات ومنها الناس أفراداً وجماعات يستوي فيها المتقون وغير المتقين.
ومقتضى هذه الوصية: "احفظ الله تجده تجاهك" أن على المسلم أن يوقن أن الله جلت قدرته مع عبده يهديه ويؤيده بفضله ويعلمه من لدنه علماً ينفعه، ويسبغ عليه من نعمه ما يشاء متى حفظ الله في أوامره وحرماته التي منها حقوق الخلق والناس أجمعين برهم وفاجرهم.
في هذه الوصية "احفظ الله تجده تجاهك" دعوة إلى مراقبة الله في كل الأعمال والأحوال والأقوال، وطلب مرضاته، وإجتناب ما يبغضه ولا يرضاه من سيئ الأفعال والأقوال والأحوال.
هذه الوصية تذكرنا بقول رسول الله (ص) جواباً على سؤال جبريل عن الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك". توجيه رشيد إلى طريق العبادة الصحيحة المؤدية إلى مرضاة الله ودعوة إلى إستحضار القلب في الصلاة وفي كل عبادة شرعها الله فلا يشرد العقل، ولا يغفل القلب وقت ذكر الله وتلاوة القرآن وحين الصلاة، وفي المعاملة مع الناس، ينبغي أن يذكر المسلم والمسلمة أنّ الله سبحانه (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر/ 19)، وأنّه (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف/ 99). وأنّه ينبغي أن يوقن المسلم أنّ الله مطلع على سره ونجواه، وأنّ الأعمال بالنيات، وأن لكل امرئ ما نوى، وأن معية الله لا تنال إلا بالتقوى والعمل الصالح، ومن يكن الله معه كان مع الفئة التي لا تغلب، ومع الحارس الذي لا ينام والهادي الذي لا يضل.

2-احفظ الله، تجده تجاهك:
دعوة إلى تنمية المراقبة الذاتية (أي الوازع الديني) في العلم والعمل، فهذا الصانع عليه أن يؤدي مهمته في صناعته بالأصول والمعايير التي تعارف عليها أهل تلك الصناعة، وهذا الموظف الذي وكلت إليه الدولة مصالح المواطنين عليه أن يؤديها إلى مستحقيها دون من ولا أذى ولا تعطيل ولا غبن ولا تضليل، وهذا الجندي الذي وكل إليه حماية الأمن وتوفير الأمان للناس والأموال عليه أن يسهر قائماً بهذه الحماية وهذا الذي ائتمنه الناس على أموالهم عليه أن يحفظ الأمانة وأن يردها إلى أهلها كما قال الله سبحانه في سورة النساء: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء/ 58)، وهكذا كل ذي عمل عليه أن يرعى حق الله فيه.
احفظ الله تجده تجاهك: وصية حكيمة من نبي الإسلام – عليه الصلاة والسلام – لا ينال ثمراتها العظيمة وبركاتها العميقة إلا المؤمن التقي النقي الصادق الإيمان.
أيها المسلم، أيتها المسلمة، بل أيها الإنسان احفظ الله تجده تجاهك.
    
3- تعرف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة:
هذه ثالثة وصايا رسول الله (ص) إلى عبد الله بن العباس (رض) في الحديث الذر رواه الإمام أحمد في مسنده. وهي توجيه إلى استدامة طاعة الله وتقواه، فإذا تعرف المسلم أو المسلمة إلى الله بالطاعة والتقوى ومراعاة حقوقه والمحافظة على عهوده وحدوده، وإصلاح ذات نفسه وكفها عن غيها وعن بغيها، والعمل على نشر الفضل والفضائل ووأد الفحش والرذائل تعرف الله إليه في حال شدته وضيقه وعسرته ومرضه فكان الفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسرة والصحة بعد المرض جزاء من الله ورحمة.
وهذا هو القرآن يحدثنا عن يونس (ع) حيث كان يذكر الله في سعته ويسره، فلما التقمة الحوت واحتواه في بطنه وصف الله موقعه وموقفه في قوله – سبحانه – في سورة الصافات: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات/ 143-144).
وهذا فرعون كان طاغياً باغياً، معرضاً عن ذكر الله في كل وقته، معتزّاً بجنده وملكه، حتى قال لقومه: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص/ 38)، لكنه حين أدركه الغرق قال: (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) (يونس/ 90)، فقال الله له: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس/ 91). ثمّ كان من المفرقين الهالكين.
ويزكي هذه الوصية ويشهد لها ولآثارها الطيبة حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار، وأغلقت عليهم الصخرة بابه حيث فرج الله عنهم، بتقربهم إليه بالدعاء بما سبق منهم من أعمال صالحة خالصة لله في حال الرخاء، من برّ بالوالدين وترك للفجور، وأداء الأمانة الخفية.
نعم؛ تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة؛ وصية نبوية يشهد لها ما جاء في الحديث القدسي الذي رواه:
"ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه..." إلى أن قال: "... ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه..".
وهذا التعرف إلى الله على هذا النحو الذي أوصى به رسول الله (ص) غير المعرفة العامة التي أشار إليها قول الله – سبحانه – في سورة ق: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق/ 16)، وقوله – تعالى – في سورة النجم: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) (النجم/ 32). إذ هنا العلم والإحاطة بالأشياء كلها والله بكل شيء محيط، وبكل شيء عليم وكما قال – سبحانه – في سورة الشورى: (إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (الشورى/ 27).
أما تلك المعرفة الخاصة من العبد المسلم إلى ربه، فإنها تستتبع الطمأنينة إلى رحمة الله ولطفه وغوثه ورعايته، وثقته في النجاة من الشدة والكرب وفي إستجابة دعائه، فيقع له الأنس بالله والمزيد من التعرف إلى الله.
وإذا كانت أعظم شدة يلقاها الإنسان في هذه الحياة هي الموت كان الواجب الإستعداد لإستقباله بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة طول الحياة حتى يحين الأجل وهو على الإسلام والإيمان، فتدركه رحمة الرحمن، ويهون عليه أمر الموت، ويثبته الله بالقول الثابت في الدنيا وفي الآخرة.
ويشهد لهذه الوصية قول الله – سبحانه – في سورة الطلاق: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) (الطلاق/ 2)، أي من كربات الدنيا والآخرة.
والتقوى تعرف إلى الله وتقرب إليه بالطاعات وبالإخلاص في الأعمال، أما من لم يتعرف إلى الله في الرخاء والميسرة، لم يكن له حظ في معرفة الله في شدائده بالرحمات واللطف. فتعرف أيها المسلم وأيتها المسلمة إلى الله في الرخاء واليسر يعرفك الله بفضله ورحمته ولطفه في الشدة والعسر والله معكم ولن يتركم أعمالكم متى أحسنتم وأخلصتم.
    
4- إذا سألت، فاسأل الله:
هذه رابعة الوصايا التي وجهها رسول الله (ص) إلى عبد الله بن العباس (رض) في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وفيها يأمر النبي (ص) بإفراد الله – تعالى – بالسؤال؛ لأنّه الغني القادر، وحتى لا يذل المؤمن بسؤال غير الله القوي المعطي الوهاب (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الملك/ 1)، ولأنّ في السؤال ذاته إظهار الحاجة إلى المسؤول الاعتراف باقتداره على العطاء وذلك لا ينبغى التوجه به إلى غير الله – سبحانه – الذي يفتقر إليه جميع المخلوقين في كافة شؤونهم على ما يشير إليه قول الله – سبحانه في سورة فاطر (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15). وفي سورة النساء: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء/ 32).
وهو (اللَّهُ الصَّمَدُ) (الإخلاص/ 2)، أي الذي يُقصد وحده في الحوائج.
ولهذه الوصية النبوية شواهد كثيرة من القرآن والسنة، فإذا شكوت – أيها المسلم وأيتها المسلمة – من أمر أصابك فلا تشكُ إلا إلى الله، وإذا دعوت فلا تدع إلا الله؛ فإنّه الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
ذلك قول الله في سورة غافر: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/ 60)، وقوله في السورة نفسها: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (غافر/ 65)، وفي سورة الأعراف: (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 56).
ولنا الأسوة الحسنة بدعاء الأنبياء والمرسلين الذي ورد في القرآن: فقد كان دعاء إبراهيم كما في سورة إبراهيم: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم/ 40-41)، ودعاء موسى في قوله – تعالى – في سورة القصص: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص/ 24)، ودعاء أيوب، ودعاء ذي النون ودعاء زكريا وغيرهم حيث كان دعاؤهم وسؤالهم لله تعالى.
ولنتدبر قول الرسول الكريم (ص) توجيهاً وتعليماً لأمته كما رواه البخاري عن أبي هريرة (رض) "تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء".
وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة (رض) قول رسول الله (ص) "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء".
فاسألوا لله – أيها المسلمون – وألحوا بالدعاء.
وخامسة الوصايا في هذا الحديث الشريف: "وإذا استعنت فاستعن بالله"..
أي إذا طلبت المعونة على أي أمر من أمور الحياة للدين أو للدنيا فتوجه بطلبك إلى الله سبحانه؛ فإنّ الأمور كلها بيده، ولا تطلبها من غيره، اطلب من الله – سبحانه – وحده العون والتوفيق والتيسير بإخلاص وقوة يقين فهو وحده المستعان به، وقد عَلَّمنا أن ندعوه ونستعين به ونعبده وحده حين فرض علينا أن نتلو في كل صلواتنا سورة الفاتحة ومن آياتها قول الله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5)، أي أننا نخصك بالعبادة فلا نعبد سواك، ونخصك بطلب العون منك، فلا نستعين بغيرك.
ومن الأدب مع الله شكر نعمته حين يتفضل بالاستجابة لاستعانتك به، وإذا لم لم يعنك فلم تنل ما تمنيت، فاعلم أنّ الخير لك فيما قضى الله به وقدره؛ فقابل صنع الله واختياره لك بالرضا والتسليم وارضَ بقضاء الله – تعالى – وقدره، خيره وشره، ومره وحلوه؛ فإن ذلك شطر من الإيمان.
هذا، ولا تعني هاتان الوصيتان الشريفتان: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا إستعنت فإستعن بالله"، أنّه لا يحل للمسلم طلب العون في حمل شيء ثقيل مثلاً يعجز عن حمله أو العون في سفر أو تعلم؛ لأن كل تلك تعاملات مباحة، وإنما توجِّه هاتان الوصيتان إلى أنّ العطاء والحرمان، والعون وعدمه بيد الله وحده، والسؤال والدعاء يجب أن يوجها بادئ ذي بدء إلى الله – سبحانه – فهو الذي يعين ويستعان به، وهو الذي يعطي دون حدود، وهو الذي يؤلف القلوب، ويحركها إلى فعل الخير ويدفعها إلى الإحسان في كل شيء وهذا لا يمنع من الأخذ في الأسباب المشروعة مع الإعتماد على خالق الأسباب فهو خالق الأسباب والمسببات..
(لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ...) (الأنفال/ 64).►
    
    المصدر: كتاب منهج الإسلام في التربية والإصلاح

ارسال التعليق

Top