• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

منهج الاستغفار من خلال قصة النبي نوح «ع»

منهج الاستغفار من خلال قصة النبي نوح «ع»

◄الاستغفار منهج حياة:

من الأساليب التي اتّبعها النبيّ نوح (ع) مع قومه، دعوته لهم إلى الاستغفار كنهج في طريق الإيمان الصحيح، (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ)، فهو (ع) يدعوهم إلى أن يتراجعوا عن الشرك الذي يمثِّل خطيئةً من أكبر الخطايا، لأنّه يتناول أساس الإيمان الذي يرتكز على التوحيد؛ توحيد الله في الربوبية، وفي العبادة، وفي الطاعة، ولذلك عندما اختاروا عبادة الأوثان وأخذوا بالشرك، واجهوا غضب الله سبحانه وتعالى، وعرّضوا أنفسهم لعقابه، فدعاهم نوح (ع) إلى أن يتراجعوا عن هذه الخطيئة الكبرى بالاستغفار، باعتبار أنّ طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى يمثِّل الانتقال من الشرك إلى الإيمان والتوحيد، والتوبة إلى الله من كلّ ما أسلفوه من الخطايا والذنوب.

(إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) (نوح/ 10)، ولأنّ الله هو الرحمن الرحيم الغفّار، فقد يمنح عباده الفرصة للرجوع إليه، ويدعوهم إلى الاستجابة له والرجوع إلى الحقّ الذي يكفل لهم رحمة الله وغفرانه ورضوانه؛ لأنّ الاستغفار ليس مسألة كلمة يتلفّظ بها الإنسان، بل هي مسألة موقف ثابت وحاسم ومنهج يشمل الحياة كلّها. فبين الشرك والتوحيد مسافةٌ واسعةٌ تتّسع لكلّ أفكار الإنسان وأفعاله وأقواله؛ فللمشركين طريقتهم في التفكير وفي العمل وفي القول، وللموحّدين طريقتهم التي تختلف عن أولئك؛ فالموحدون لا يرون إلّا الله، بينما المشركون يحدّقون في أوثانهم وأصنامهم بالطريقة التي تتحجّر فيها عقولهم، فلا يجدون في خطّ شركهم أي قيمة روحية أو إنسانية أو أخلاقية، لأنّ هذه الأوثان لا تمثّل شيئاً ولا تدرك شيئاً. أما الله الواحد، فهو الذي يمثّل الروح كلّ الروح، والقيمة كلّ القيمة، والنجاح كلّ النجاح.

إذاً، فالمقصود في قول نوح (ع) (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) هو الاستغفار من الذنب الذي يؤدّي إلى الكفر أو الشرك وما يتفرّع منهما على صعيد الأعمال التي تبتعد بالإنسان عن مواقع رضا الله. والاستغفار يمثّل وسيلة من الوسائل التي يتحرّر فيها الإنسان من الخطيئة، بحيث يُزيل الخطيئة من كلّ حياته، وينفتح على الله سبحانه وتعالى في الاعتراف بالذنب والابتهال إليه في أن يمحو عنه كلّ ذنوبه.

 

الاستغفار في الإسلام:

وقد تحدّث القرآن الكريم عن الاستغفار ونتائجه الإيجابية في أكثر من آية، منها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) (آل عمران/ 135)، أياً كانت الفاحشة، وأياً كان ظُلمُ النفس، سواء كان في الجانب العقيدي؛ في الكفر أو الشرك، أو في الجانب العملي؛ بالمعصية العملية فيما يقوم به الإنسان من قول أو فعل أو في علاقة مع الآخرين، (ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)، أي أنّهم يشعرون بأنّهم أساؤوا إلى الله وتمردوا عليه وعرّضوا أنفسهم لعقابه، ما يدفعهم إلى الاستغفار، (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ). وقد ورد في آية أخرى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزّمر/ 53). وهذه الآية تؤكّد أنّ الإنسان إذا استغفر ربّه فإنّ الله سيغفر له، (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران/ 135)، في حال كانت المعصية بالنسبة إليهم حالة طارئة، ولم تكن حالة متجذّرة في الوجدان والعقل والإحساس والشعور.

ولكن ما هو جزاؤهم من هذا الاستغفار؟ (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران/ 136).

وفي آية أُخرى يقول الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء/ 110)، فالله سبحانه وتعالى يتقبّل الاستغفار من عبده التائب إليه، والنادم على ما فرّط في جنبه، وليس الأمر كما قد يُتصوّر، أنّ الله سبحانه ينتظر العبد ليعصي حتى يأخذه بالعذاب، بل إنّ رحمته وسعت كلّ شيء، وسبقت غضبَه، وهو الحليم الذي يُمهل عباده، ويفتح لهم السُبل ليعودوا إليه، وهو الحنّان الذي يفيض حناناً ورأفةً على عباده.

وفي الحديث عن رسول الله (ص) أنّه قال: "خير الدعاء الاستغفار"، أي إذا أردت أن تدعو ربّك وتتقرّب إليه، فاستغفره من كلّ ذنوبك، لأنّ الاستغفار يمحو كلّ ذنوبك، فيُزيل الحواجز التي تفصل بينك وبين الله سبحانه. وقد ورد  و في دعاء السحر المرويّ عن الإمام زين العابدين (ع): "وأنّك لا تحتجب عن خلقك إلّا أن تحجبهم الأعمال دونك".

وفي حديث آخر يقول (ص): "خير العبادة الاستغفار" لأنّ العبادة هي غاية الخضوع التي تحقّق القُرب من الله تعالى، فإذا كانت ذنوبك تشدّك إلى الأرض، فعليك أن تتخفّف منها، وأن تحرّر نفسك من كلّ ما علق بها من الخطايا، وأن ترتفع بروحك إلى الله سبحانه وتعالى؛ لتطلب منه المغفرة والرحمة.

وفي حديث آخر عن رسول الله (ص) يقول: "أكثروا من الاستغفار، فإنّ الله لم يعلّمكم الاستغفار إلّا وهو يريد أن يغفر لكم"؛ فإنّ الله برحمته الواسعة قد فتح لعباده باب التوبة، وأراد لهم أن يستغفروه بنيّة مخلصة، تندم على ما أسلفت، وتعزم على تلك الذنوب، ووعدهم بأن يغفر لهم. وربما كان الحثّ على الإكثار من الاستغفار، ليؤكّد العبد صدق نيّته أمام الله، لأنّ غفران الذنوب مشروط بذلك.

وفي حديثٍ آخر عن رسول الله (ص): "مَن أكثر الاستغفار جعل الله له من كلّ همٍّ فرجاً، ومن كلّ ضيقٍ مخرجاً"، لأنّ العبد إذا تقرّب من الله، تلقّاه الله بلطف عنايته التي تفيض عليه سلاماً وسعةً في الحياة.

وعن الإمام عليّ (ع): "الاستغفار يمحو الأوزار"، والوزر هو الحمل الثقيل، وقد شبّه الذنب بالوزر لأنّه يشكّل ثقلاً على وجدان المؤمن وإيمانه، أو من خلال النتائج التي تترتّب على ارتكاب الذنب في الآخرة، وقال (ع) أيضاً: "مَن أُعطي الاستغفار لم يُحرم المغفرة"؛ لأنّ الله ربط بين مغفرته والاستغفار.

 

الاستغفار منهج للبناء:

وقد ربط القرآن الكريم – وورد في ذلك كثير من الأحاديث – بين الاستغفار واستمرار النعم، وبين عدم الاستغفار وزوال النعم، أو نزول العذاب.

قال تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (هود/ 3)، فالله سبحانه يربط استمرار نعمه على الإنسان بتحقيق الاستغفار الذي يؤدّي إلى التغيير نحو الأحسن في الحياة، وإلّا فإنّ عذاب الله سبحانه قد يكون عقاباً بسبب الاستمرار في المعصية والابتعاد عنه تعالى.

وقد ورد عن النبيّ (ص) في هذا المجال أيضاً: "مَن أنعم الله عليه بنعمةٍ فليحمد الله تعالى، ومَن استبطأ الرزق فليستغفر الله، ومَن أحزنه أمرٌ فليقل: لا حول ولا قوة إلا بالله". وقد نفهم هذا الحديث من خلال الآيات والأحاديث التي ربطت بين استمرار النعم وبين شكرها من خلال أداء حقّ الله تعالى فيها، كما في قوله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم/ 7).

وقد ربط نوح (ع) في دعوته بين الاستغفار، الذي ينطلق من الإيمان، وبين زيادة النِّعم عليهم من قِبَل الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة، فقال لهم: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) (نوح/ 10-11)، لأنّ الله سبحانه وتعالى إذا رضي عنكم، فإنّه يرحمكم ويفيض نعمه عليكم مما تحتاجونه في حياتكم.. والمقصود بقوله: (مِدراراً) المطر الغزير من السحاب المرتفع، ولعلّ في هذا دلالةً على قيمة ما يحصلون عليه من الزرع وكلّ الذي يحتاجونه في حياتهم حياة أنعامهم، وهو ما تشير إليه الآيات اللاحقة.

(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) (نوح/ 12)، ومَن الذي أعطاكم كلّ هذه الأموال التي تتنعّمون بها؟ ومَن الذي سهّل لكم الوسائل التي تمكّنكم من أن تجنوا المال؛ من خلال ما أعطاكم من عقل يدلّكم على مواضع الرزق، ومن جوارح تستعينون بها لتحصيل هذا الرزق، ومن موارد تستخرجونها ، ومن تجارب تحرِّكونها في ذلك...

ومَن الذي رزقكم أولادكم؟ مَن الذي جعل في النطفة سرّ الخلق وسرّ النمو وسرّ الحياة؟ إنّ الله هو مصدر الرزق الذي تحصلون عليه، وهو مصدر الخلق فيما تحصلون عليه من بنين وحفدة... (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) وهي البساتين التي أعطاكم الله القدرة على زراعتها واستثمارها لتحصلوا منها على الفواكه والثمار، ممّا تحتاجونه لحياتكم وحياة حيواناتكم، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (نوح/ 12)، ومن خلال الينابيع التي اختزنها الله سبحانه وتعالى في أعماق الأرض من خلال المطر.

وهكذا كانت دعوةُ نوحٍ لقومه بالاستغفار، تمهيداً لبناء علاقة صحيحة لهم مع الله، بعدما ابتعدوا عنه من خلال استغراقهم بالأوثان التي صنعوها بأيديهم، لأنّهم كانوا غافلين عن توحيد الله، وأنّه وليّ كلّ نعمة وصاحب كلّ حسنة، وأنّه ما من نعمة إلّا منه سبحانه وتعالى، فإنّهم كانوا يواجهون النعم التي يفيضها الله عليهم مواجهةً غير واعية.

لذلك فإنّ الربط بين الاستغفار وبين النعم، ناشئ من أنّ الإيمان الخالص يجعل الإنسان موضع رحمة الله فيما ينزله عليه من ألطافه وفيوضاته، كما أنّ الانحراف عن طاعة الله قد يجعل القضية في دائرة البلاء الذي يقلّل من نعم الله سبحانه وتعالى، ويؤدّي إلى فساد الواقع في حياة الإنسان. ولذلك فإنّ نوحاً (ع) ربّما كان يريد أن يثير في نفوس قومه قيمة العلاقة بالله والإيمان به وآثار هذه العلاقة، وذلك في حياتهم العامة على مستوى تلبية النعم التي يحتاجونها من الدنيا، بحيث لا تكون المسألة لديهم أنّهم يحصلون من خلال إيمانهم على نعيم الآخرة فحسب، بل يحصلون أيضاً على نعيم الدنيا إلى جانبها.

وربّما كان الأساس في ذلك، هو الإيحاء لهؤلاء الناس الكافرين بأنّ الله وحده هو المهيمن على الكون كلّه فيما يشتمل عليه من الظواهر المتصلة بالحياة الإنسانية، ليرتبطوا به من موقع النعمة كما يرتبطون به من موقع العظمة. وهذا ما أشار القرآن إليه بالربط بين الإيمان العملي الحركي الذي يعبر عنه بالتقوى، وبين النعم التي يفيضها الله على الناس، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) (الأعراف/ 96). وهكذا نقرأ: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (المائدة/ 65-66). وفي آية أخرى يقول تعالى: (أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (هود/ 2-3). أمّا في الجانب السلبي، فيتحدّث الله عن النتائج السلبية التي يعيشها الناس من خلال أعمالهم وذلك كقوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الرّوم/ 41)، بمعنى أنّ الفساد الذي يواجهه الناس في حياتهم، إنّما هو نتيجة للأعمال السيِّئة التي يمارسونها، والطريقة التي يتحرّكون من خلالها في التعامل مع النعم التي أنعم الله بها عليهم.

 

توقير الخالق:

ثم يتابع النبيّ نوح (ع) دعوته إلى التفكّر في عظمة الله سبحانه: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) (نوح/ 13)، أي لماذا لا تلتزمون مواقع عظمة الله سبحانه وتعالى، في ما يفرضه عليكم من توقير لمقامه، بالإيمان به والالتزام بأوامره ونواهيه، (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) (نوح/ 14)، ربّما يراد بذلك بيان التدرّج في وجود الإنسان، كما قال تعالى: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) (الحج/ 5). وربّما يكون المقصود بالأطوار الأنواع، أيّ التنوّع الإنساني من ناحية طبيعة اللون أو العرق أو اللسان، أو من جهة طبيعة الطاقات التي تختلف بين إنسان وآخر، أو بين فئة وأخرى.

ثمّ يلفتهم نوح (ع) ليفكّروا في خلق السماوات والأرض، فيقول: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا) (نوح/ 15)، أي بعضها فوق بعض، أو أنّ المراد بذلك التماثل، (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) (نوح/ 16)، وهو الضوء الهادئ في الليل، (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) (نوح/ 16)، تضيء الأجرام، وتمنح الأرض إشراقة النهار، وتمدّها بالحرارة. وإنما عبّر عن القمر بأنّه نور، وعن الشمس بأنّها سراج، ليشير بذلك إلى أنّ القمر لا يختزن النور في ذاته، وإنما يستمدّه من الشمس، بينما الشمس تُنتج الضياء كما يُنتجه السراج، فهي بذلك تشكّل المصدر له، والله العالم.

(وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا) (نوح/ 17)، وهنا يرد تفسيران: الأوّل، أنّ الآية تشير إلى خلق آدم، كما يذكره قوله تعالى: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ) (ص/ 71)، حيث خلقه الله تعالى من الأرض بشكلٍ مباشر، والناس كلّهم من آدم، وآدم من تراب، فكأنّهم أُنبتوا من الأرض بشكل غير مباشر.

والتفسير الثاني، أنّ الإنسان يولد من النطفة، والنطفة تتكوّن من الغذاء، والغذاء الذي يأكله الإنسان مستخرج من الأرض بشكل مباشر، أو من خلال الحيوان الذي يأكل النبات فيأكله الإنسان...

(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) (نوح/ 18)، في يوم القيامة، حيث يبعث الله الخلائق أجمعين، (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا) (نوح/ 19)، ترتاحون إليه، وتنامون عليه وما إلى ذلك (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا) (نوح/ 20)، أي طرفات (فجَاجاً) أي واسعةً.

وهكذا نجد أنّ نوحاً (ع) كان يحاول أن يستثير في قومه عناصر التفكير في أنفسهم وما حولهم، ممّا يُمكن أن ينفتح بهم على آفاق الإيمان، فلا ينظروا إلى آيات الله في الكون نظر الذي لا يعقل شيئاً ممّا يرى، ولا يبحث عن أسرار ما يُشاهد، وأسرار القوانين التي يتحرّك من خلال الكون كلّه.

وقد كان من وظيفة هذه الآيات، أن توجّه الإنسان إلى السير في خط التفكير في أسرار الكون وفي نظامه. وإذا كان الأقدمون لم يستطيعوا أن يكتشفوا هذه الأسرار وهذه القوانين، فقد جاء المتأخرون واكتشفوا، من خلال البحث والتفكير والتجربة، الكثير من أسرار الكون من خلال القوانين التي أودعها سبحانه وتعالى.►

ارسال التعليق

Top