إنّ الإسلام يدعو إلى الوحدانية الإلهية والإخلاص هو روح العمل الإسلامي وكلما تصفحنا كتب الأدعية المأثورة والمفعمة بكلمات أئمة الهدى والصالحين كلما شاهدنا أكثر الدعاء الجماعي والذي لا يقتصر على المسلمين بل ليتعدى كافة أبناء الإنسانية والبشرية وقد روى الكفعمي في المصباح وفي البلد الأمين كما روى الشيخ الشهيد في مجموعته عن النبيّ (ص) أنّه قال: من دعاء بهذا الدعاء في رمضان بعد كلّ فريضة غفر الله له ذنوبه إلى يوم القيامة: "اللّهمّ أدخل على أهل القبور السرور، اللّهمّ أغن كلّ فقير، اللّهمّ أشبع كلّ جائع، اللّهمّ أكس كلّ عريان، اللّهمّ اقض دين كلّ مدين، اللّهمّ فرِّج عن كلّ مكروب، اللّهمّ ردّ كلّ غريب، اللّهمّ فكّ كلّ أسير، اللّهمّ أصلح كلّ فاسد من أمور المسلمين، اللّهمّ اشف كلّ مريض، اللّهمّ سدّ فقرنا بغناك، اللّهمّ غيِّر سوء حالنا بحسن حالك، اللّهمّ اقض عنا الدين وأغننا من الفقر إنّك على كلّ شيء قدير". إنّ المتأمّل في عبارات الدعاء، يكتشف كيف إنّه يدعو الرسول (ص) لكافة المحتاجين من الناس ولا يشير إلى دينهم ومذهبهم يدعو لهم بالانفراج في المواطن الصعبة، من هول القبر، والخلاص من الفقر والجوع والعرى والكرب، والغربة والأسر وأداء الدين، ومن ثم يلتفت إلى المسلمين بالدعاء لهم على إصلاح الفاسد من أمورهم وشفاء المريض وسدّ الفقر وتغيير الأحوال و... إنّ هذه التربية النبوية هي التي تستجلب الأعداء قبل الأصدقاء والمحبين نحو رسول الله (ص) ولو لم يكن كذلك لما كان رحمة للعالمين، وما التفت حوله قلوب العاشقين وانشد إليه الوالهون واصطف خلفه المريدون وقد قال سبحانه وتعالى في حقّه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين) (آل عمران/ 159). اضف إلى ذلك عندما نراجع دعوات الأيام الرمضانية للنبيّ الأكرم (ص) كما هو منقول عن ابن عباس، بها يقدم صلوات الله وسلامه عليه مجتمعاً نموذجياً يحمل أرقى الصفات ليكون الأسوة لكافة البشرية ويحقق مصداق (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...) (البقرة/ 143)، مجتمعاً عُرف بالصيام والقيام، والوعي والتوبة، والعفو، والرضا، وقراءة القرآن، والابتعاد عن سخط الله، ونقمته والبعد عن السفاهة والتموه وطلب الخير، وكثرة الذكر، وأداء الشكر والسعي إلى المغفرة، والدخول في الصالحين القانتين والترحم على الأيتام وإطعام المساكين، وإفشاء السلام، وصحبة الكرام، والاهتداء بالبراهين الساطعة والتوكل على الله، ومحبة الإحسان وكره الفسوق والعصيان والتزيين بالستر والعفاف والستر بلباس الكفاف والقنوع والحمل على العدل والإنصاف، والأمن من كلّ مخوف، والطهارة من الدنس والأقذار والصبر على كائنات الأقدار والتقوى وصحبة الأبرار والقيام لصالح الأعمال، والتنبه لبركات الأسحار، والعرفان بقلوب منورة، مجدّاً لدخول جنّات الرحمن، وغلق أبواب النيران، بالابتعاد عن همزات الشيطان، مطهراً من العيوب، ممتحن القلوب، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر يرتقي إلى قمة الإنسانية بفضل ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر و... يسعى الإنسان إلى تحقيق هذا المجتمع المثالي من خلال الأدعية المأثورة والمنقولة عن نبيّ الرحمة وأهل بيته لتكون مناراً له في حياته الدنيوية ومآلاً لآخرته. وهل يغيب على ذي لب وحكيم دعاء أبي الأحرار الحسين بن علي (عليهما السلام) في عشية عرفة كما نقلاه بشر وبشير ابنا غالب الأسدي قالا كنا مع الحسين بن علي (عليهما السلام) عشية عرفة فخرج (ع) من فسطاطه متذلّلاً خاشعاً، فجعل يمشي هوناً، هوناً حتى وقف وهو وجماعة من أهل بيته، وولده ومواليه، في مسيرة الجبل مستقبلاً البيت رافعاً يديه تلقاء وجهه، كاستطعام المساكين، ثم قال: "الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ولا لعطائه مانع ولا كصنعه صنع صانع وهو الجواد الواسع..." وبعد ذكر أروع المناجات بين العبد وربّه تتجلى فيها آيات الخشوع من العبد والألوهية من ربّ رحمن رحيم... إلى أن يقول: "اللّهمّ اقبلنا في هذا الوقت منجحين مفلحين، مبرورين، غانمين، ولا تجعلنا من القانطين... ولا تردّنا خائبين ولا من بابك مطرودين يا أجود الأجودين... اللّهمّ ونقّنا وسددنا واقبل تضرعنا يا خير من سُئل ويا أرحم من استرحم...". وبهذا الدعاء يرسم خارطة طريق الفرد المؤمن والمجتمع الصالح، يرسم صورة كاملة عن ضعف الإنسان الذي قد يظن أنّه فعّال ما يشاء من جهة، ويقدم لوحة فنية عرفانية لربّ العزة والجلال، العفو الغفور الرؤوف الرحيم... بالدعاء الحسيني يكشف الإنسان والمجتمع إستراتيجية الحياة بعد معرفة نقاط الضعف والقوّة وكيفية الارتقاء إلى قمة الكرامة والإنسانية. وإليك صورة أخرى عن الدور التربوي للدعاء في تكوين مجتمع ينهج المسير الوحدوي ليصل إلى أعلى درجات القرب والعبودية. وقد ورد بأسناد معتبرة عن جابر عن الباقر (ع) أنّه زار الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، قبر أمير المؤمنين علي (ع) قائلاً: "السلام عليك يا أمين الله.. إلى أن قال: اللّهمّ إنّ قلوب المخبتين إليك والهة وسبل الراغبين إليك شارعة وأعلام القاصدين إليك واضحة وأفئدة العارفين منك فازعة وأصوات الداعين إليك صاعدة وأبواب الإجابة لهم مفتحة ودعوة مَن ناجاك مستجابة وتوبة مَن أناب إليك مقبولة وعبرة مَن بكى من خوفك مرحومة والإغاثة لمن استغاث بك موجودة والإعانة لمن استعان بك مبذولة وعداتك لعبادك منجزة وزلل مَن استقالك مقالة وأعمال العاملين لديك محفوظة وأرزاقك إلى الخلائق من لدنك نازلة وعوائد المزيد إليهم واصلة وذنوب المستغفرين مغفورة وحوائج خلقك عندك مقضيّة وجوائز السائلين عندك موفّرة وعوائد المزيد متواترة وموائد المستطعمين معدّة مناهل الظماء مترعة".
إنّ كلّ جملة من هذه الأدعية هي في الواقع مدرسة لتعليم ولتربية المجتمع الإسلامي تقوده إلى تطهير القلب والرغبة نحو المعبود وقصده والاعتماد عليه والانقطاع عمن سواه، وتجعله يعيش روح الأمل في غفران ذنوبه وتجديد ثوب الحياة بقبول توبته والاستعانة والاستغاثة بربّ العزة. ما يقرأه الإنسان مُقَولبٌ بالدعاء لكنه يحمل السُبل المتنوعة التربوية لإيجاد مجتمع موحّد ونموذجي؛ إنّ القرآن نزل بلسانه الخاص والدعاء هو القرآن الصاعد وكلّ ما يحتاجه الإنسان سيحصل عليه في هذا الدعاء إنّ لغة الدعاء تختلف عن لغة الأحكام ولغة الفلسفة ولغة العرفان فإنّهما اثنان، ولغة الدعاء فوق كلّ هذه اللغات لكن هذه اللغة تحتاج إلى مَن يتفهّمها فعلى مَن يتفهم لغة الدعاء أن ينبهوا الآخرين، كما إنّ القرآن نعمة إلهية يتنعم من فضله لكن تنعم النبيّ من القرآن يختلف عن تنعم الآخرين منه.. إنما يعرف القرآن من خوطب به.. فالبعض لا يعرف منه شيئاً والبعض لا يعرف إلّا القليل.
وفي الختام نشير إلى بعض ما جاء في دعاء زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) لأهل الثغور: "اللّهمّ صلِّ على محمد وآله وكثر عدّتهم واشحذ أسلحتهم واحرس حوزته وامنع حومتهم، وألّف جمعهم ودبّر أمرهم، وواتر بين ميرهم وتوحد بكفاية مؤنهم واعضدهم بالنصر وأعنهم بالصبر والطف لهم في المكر.
... اللّهمّ اشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين وخذهم بالنقص عن تنقّصهم وثبطهم بالفرقة عن الأحشاد عليهم...".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق