د. عبدالستار إبراهيم*
◄عندما أطلق الفيلسوف الفرنسي "جان بول سارتر" مقولته الشهيرة "الجحيم هو الآخرون" لم يقل من وجهة نظري إلا نصف الحقيقة، أما النصف الآخر من الحقيقة الذي يبدو أنّه غاب عن ذهن الفيلسوف الكبير فهو أيضاً أنّ "النعيم هو الآخرون".
نعم، إنّ الآخرين لهم النعيم والجحيم معاً: مقولة تؤكدها الآن الحقائق النفسية، وتتأكد يومياً لكل من يقوم بممارسة العلاج النفسي مع مختلف أنواع المرضى والمترددين على العيادات النفسية. فعلى مدى ما يقرب من ثلاثين عاماً من العمل مع المئات من الحالات النفسية والعقلية، تكشف لي شخصياً أنّ الضغوط الاجتماعية وصعوبات التعامل مع الناس تكاد تكون عنصراً تشتركاً في كل الحالات التي تزور العيادات النفسية. وتبين لي أيضاً أن حياة نسبة كبيرة من الناس تتطور وتتحسن تماماً عندما يتعلمون بعض قواعد التواصل بالآخرين، أي أنّ الأمر ببساطة يتوقف على حسن التواصل بالآخرين، فكلما حسن تواصلك مع الآخرين، كانت نوعية الحياة التي تحياها أقل إثارة للتوتر والاضطراب وأكثر إنعاشاً للصحة وإثارة للطمأنينة النفسية.
والتواصل بالآخرين ووجود شبكة من العلاقات الاجتماعية يحمينا من الأمراض ويعجل بشفائنا. ففي دراسة أجريت على 600 طبيب تبين أنهم يتفقون على أنّ المريض المحاط برعاية الأسرة والأصدقاء يتلقى رعاية طبية أفضل من هؤلاء الذين يتركون في عزلة ودون دعم اجتماعي. وفي دراسة أخرى تبين أن نسبة الكورتيزون تزداد بشكل ملحوظ لدى المرضى المعزولين اجتماعياً بالمقارنة بالمرضى الذين يلقون التدعيم والرعاية الاجتماعية. والكورتيزون لمن لا يعرف هو الهرمون المرتبط بزيادة الضعف والذي يؤدي إلى تراكم الشحوم في منطقة البطن التي تعتبر بدورها أحد عوامل الخطر في الإصابة بأمراض القلب.
والتواصل بالآخرين من خلال وجود شبكة من العلاقات الاجتماعية يلعب أيضاً دوراً حاسماً في الإقلال من نسبة الوفيات وإطالة العمر. فمثلاً قلت نسبة الوفيات والإصابة بالأمراض بنسبة 28% في دراسة ضخمة أجريت في الولايات المتحدة على ما يقرب من سبعة آلاف شخص عند المتزوجين ممن لهم شبكة من العلاقات الاجتماعية الوثيقة بالأقارب والأصدقاء مقارنة بالأفراد المعزولين اجتماعياً.
وهو يفتح فضلا عن هذا آفاقاً من النمو لا حصر لها. انظر لحياتك الشخصية، ستجد أن كل ما حصلت عليه من مزايا في الحياة: الصحة والتفاؤل والوظيفة التي تشغلها، والترقية التي كنت تصبو إليها، والنجاح الذي حققته أو ستحققه، والراحة التي تحصل عليها بعد عودتك للمنزل، وما تشعر به من رضا أو صحة نفسية أو عقلية، كل ذلك كان بسبب بضعة أشخاص من الناس أحاطوك بالحب والرعاية والتقبل والتقدير.
ومن القواعد النفسية المعروفة أنّه من الصعب أن تدخل في علاقة حميمة وناضجة مع أحد إن كان أحد الطرفين – أنت أو هم – يعاني من الخسارة نتيجة لهذه العلاقة. ولهذا فإن أنجح العلاقات الاجتماعية هي تلك التي تبنى على وجود كسب نفسي واجتماعي متبادل بين الأطراف الداخلة في هذه العلاقات. ومن المثير أن تعلم بوجود حقيقتين كلتاهما ستعمل لمصلحتك إن استثمرتهما جيِّداً في تفاعلاتك بالآخرين.
الحقيقة الأولى منهما أن بيد طرف واحد من الأطراف الداخلة في أي علاقة اجتماعية أن يعمل على إنجاحها بسبب ما نسميه بمبدأ العائد أو المردود الاجتماعي. ويفترض هذا المبدأ أن استجابات الآخرين وأساليب تواصلك بهم تحدد – في الظروف العادية – استجاباتهم لك وطرقهم في السلوك والتصرف معك. بعبارة أخرى، حب الناس وتقديرهم لك هو في الواقع استجابة متوقعة نتيجة لتصرفاتك معهم، وهذا يعني بعبارات بسيطة ودقيقة أنك مسؤول عن نجاح أو فشل تفاعلك مع الناس. كل المطلوب أن تبذل بعض الجهد، وأن تبدي للناس ما تود أن يمنحوه لك.
أظهر لهم التقدير والود إذا كنت راغباً بالفعل في تقديرهم وحبهم لك. فالناس بإمكانهم أن يعطوك إن كنت أيضاً قادراً على إعطائهم من حبك ووقتك ومودتك وتقديرك لهم. وسيعطونك المزيد من الاهتمام والحب، إن قابلت حبهم بحب وبادلتهم التقدير باهتمام مماثل. صحيح أن هناك أنماطاً صعبة من البشر يفاجئونك باستجابات موتورة، ولكن هذه الأنماط البشرية والحمد لله قليلة ونادرة ولها ظروفها الخاصة ودوافعها المختلفة، وربما يتحرك بعضهم بدافع الاضطراب النفسي أو العقلي. وفي كل الأحوال ربما يحتاج التواصل – أو عدم التواصل – بأشخاص هذه الفئات الصعبة من الناس إلى أنماط من السلوك، واستجابات مختلفة.
أما الحقيقة السارة الأخرى، فهي أمكن لعلماء النفس والمعالجين النفسيين أن يحددوا بالضبط قائمة بالمهارات الشخصية التي يمكن بفضلها توجيه العلاقات الاجتماعية للوجهة الإيجابية التي نطمح إليها. ولم يتم تحديد هذه المهارات فحسب، بل إن هناك ما يدل على أنّ هذه المهارات يمكن تعلمها، وتدريبها في فترات قصيرة من الوقت. وعلى رأس قائمة هذه المهارات واحدة يكشف البحث العلمي يوماً بعد يوم أنها مطلب رئيسي من مطالب النجاح والتوفيق في الحياة والعلاقات الإنسانية.
- تيسير التواصل:
أمّا هذه المهارة التي أعنيها فهي تعني ببساطة أي تصرف اجتماعي يخلو من السلبية أو العدوان. وإذا أردت أن تعطي هذه المهارة اسماً معيناً فهي عندي تسمى "حرية التعبير عن المشاعر"، وبمصطلحات علم النفس تسمى "تأكيد الذات" والشخص الذي يتصف بهذه الخاصية يتسم بدرجة عالية من التعبير عن المشاعر الإيجابية في علاقاته الاجتماعية التي تتطلب التعبير عن الاستحسان، والتقبل، وإظهار الحب، والمودة، والمشاركة الوجدانية. وهو أيضاً أكثر قدرة من غيره على التعبير عن احتياجاته الشخصية والدفاع عن حقوقه بقوة، وبقدر من الحزم والاحتجاج، إذا ما اضطر للتفاعل بمواقف أو أشخاص يثيرون القلق والتهديد. بعبارة أخرى تجد أن سلوك الأشخاص الذين يتصفون بهذه المهارة يتسم بالتلقائية، والحرية في التعبير عن المشاعر الإيجابية، والسلبية أي مشاعر التقبل والرفض معاً.
وتبين البحوث أن من يمتلك هذه الخاصية يمتلك مفاتيح النجاح من وجهتي نظر الصحة النفسية والفاعلية في العلاقات الاجتماعية.
ولأنّ الشخص المدرب على التعبير عن مشاعره يتكلم أكثر، ويعبر عن مشاعره في داخل الجماعة بحرية أكبر، وينصت للآخرين أكثر ويتفهم احتياجاته دون أن يتجاهل حاجات الآخرين، فهو بهذا المعنى يعطي للآخرين فرصاً أكثر للتعبير المماثل عن مشاعرهم. ولهذا فليس غريباً أن يتغير المناخ الاجتماعي بوجود فرد أو أكثر من هذا النمط في أي مجموعة من الناس رسمية كانت أم غير رسمية.
فالتعبير بحرية عن المشاعر وبثقة من شأنه أن يساهم في خلق تواصل إيجابي، سهل وبناء.
- تجنب تشنجات القلق:
وقد يفسر بعض الأشخاص هذه الخاصية تفسيراً سلبياً خاطئاً، وكأنها فقط تعني التعبير عن الغضب، والصياح، والتسلط، ومواجهة الآخرين بعيوبهم، لكن حرية التعبير عن المشاعر لها معنى أكثر اتزاناً واتساماً بالصحة النفسية من ذلك. فهي تعلمنا أن نعبر عن مشاعرنا بصدق، وأن نعي مصادر التهديد لدينا، وألا نخاف من إظهارها والكشف عنها. وهذا الوعي بدوره يساعدنا على صقل مهارتنا في التعبير عن المشاعر دون تشنجات القلق وثورات الغضب.
والشخص الذي يستطيع أن يعبر بحرية عن مشاعره عند التفاعل بالآخرين يمكنه أن يتجنب الدخول في صراعات ومواجهات خاسرة أو حمقاء، خاصة تلك التي تتضمن تعدياً على أدوار الآخرين ووظائفهم. وهو أيضاً يتسم بالشجاعة في التراجع عن الأخطاء التي قد يرتكبها في حق نفسه أو في حق الآخرين، عمداً أو دون عمد. كما تعني أن تكون أيضاً قادراً على رفض أن يجرك أحد إلى مجادلة أو مناقشة سخيفة، أو مملة، والسلوك التوكيدي يجعلك قادراً على التمييز بين المواقف المختلفة والاستجابة لكل موقف بما يناسبه من تصرف.
هذه هي المهارة التي تملك من خلالها فيما ترى مفاتيح النجاح والفاعلية في العلاقات الاجتماعية، وتبين البحوث والخبرة العلاجية أنّ هذه الخاصية يمكن لحسن الحظ تدريبها وأن نتعلمها بقليل من التوجيه والانتباه الشخصي لأهميتها.
وعندما تتاح الفرصة للشخص لاكتساب هذه المهارة سيسهل الأمر عليه لتطوير علاقة سهلة ودافئة بالآخرين، بسبب ما تخلقه هذه الخاصية من طمأنينة متبادلة، وتواصل.
- بهذا أنصح!
ولعل أهم ما أنصح به إن كنت تعاني بعض جوانب الضعف في التعبير عن المشاعر أن تبدأ باختيار موقف أو موقفين على الأكثر من المواقف التي تشعر فيها بالعجز النسبي عن ممارسة حريتك في التعبير عن ذاتك، وليكن ذلك مثلاً التعبير عن وجهة نظرك عند التعامل مع أشخاص يكثرون من النقد والتهجم أو في اجتماع عام أو حفل أو استيضاح نقاط غامضة في محاضرة أو خطبة.
حدد ما تريده بالضبط كعلاج لكل موقف ضعف بأن تستخدم صياغات إيجابية فمثلاً بدلاً من أن تقول إنني لا أريد أن أكون وحيداً أو قلقاً في اللقاءات الاجتماعية، تتطلب الصياغة التوكيدية أن تصوغ نواياك بشكل إيجابي كأن تجعل هدفك بأن تعمل في المواقف القادمة على تكوين علاقة مريحة بشخص أو أشخاص معينين. وبدلاً من أن تقول: أتمنى لو أنني لم أكن خجولاً أو انطوائياً، يمكنك أن تجعل هدفك الإيجابي هو المبادرة بالتعرف على شخص مهم، أو أن تتطوع لتحمل مسؤولية التخطيط للقاء عام أو تكوين فريق عمل أو لقاء ودي.. إلخ.
والآن وبعد أن أمكن لك صياغة أهدافك إيجابياً يأتي دور التدرب على ممارسة السلوك عملياً. ولأنّ الممارسة العملية قد تكون عسيرة وصعبة على من لم يتقنها من قبل فمن الأفضل البدء بممارسة السلوك على المستوى التخيلي أو من خلال القيام بلعب الدور المرغوب مسبقاً مرات ومرات قبل الدخول في مواقف فعلية وحية حتى يجيء أداؤك متقناً خالياً من التصنع.
وعندما يجيء دور الممارسة الفعلية يحسن أن يكون الدخول فيها تدريجياً، وأن تبدأ بالمواقف التي تتسم بالسهولة، وأن تتوقع نجاحك فيها، وأن تتضمن المواقف أشخاصاً تتوسم فيهم التقبل، والتعاون معك، أما التعامل مع المواقف الاجتماعية الصعبة التي تشتمل على أشخاص ميالين للنقد والعدوانية، فهذه يجب أن تظل لتدريبات مستقلة متأخرة نسبياً.
فضلاً عن هذا، سيظل هناك تداخل دائم بين الممارسة التخيلية والممارسة الفعلية. ففي كل الأحوال تحتاج إلى الممارسة التخيلية بما فيها لعب الأدوار مسبقاً لكي تتجنب مفاجآت الحياة العملية وتعقد العوامل الداخلة في تنفيذها.
وفي كل الأحوال عليك أن تكون مستعداً أحياناً لحدوث بعض الصعوبات وربما الفشل. تذكر أنّه ليس من المطلوب دائماً أن تحقق كل ما تريده من أول محاولة، ولا أن تفوز في كل المواقف. شيء واحد أستطيع أن أؤكده لك بيقين، وهو أنّ الاستمرار في الممارسة سيؤدي إلى التحسن المطلوب – والتحسن دائماً يقود إلى تحسن أفضل، كما أن أي نجاح مهما صغر سيؤدي إلى نجاح أكثر فأكثر – إلى أن تتحول هذه الخاصية تدريجياً إلى خاصية طبيعية غير مصطنعة. وتدريجياً سيمكنك أن تنمي وتبتكر أساليب جديدة تكتشف من خبرتك أنها تصلح لمعالجة مواطن الضعف بشكل إيجابي. ولكن كن على حذر من الهرولة بين الأساليب التي اخترتها. امنح نفسك وقتاً – أسبوعاً مثلاً – لتتقن البعض منها إتقاناً جيِّداً قبل أن تنتقل للتدرب على أي أسلوب جديد تختاره.►
*أستاذ واستشاري علم النفس الطبي
المصدر: (مجلة العربي/ العدد 554 لسنة 2005م)
ارسال التعليق