• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

هكذا ينبغي أن نقرأ القرآن الكريم ونفهمه

آلاء الخطيب

هكذا ينبغي أن نقرأ القرآن الكريم ونفهمه
 ◄يجب أن نضع نصب أعيننا، قبل كل شيء أنّ القرآن الكريم كل لا يتجزأ. وكل آية قرآنية منفردة أو مقتضبة من السياق العام لا تقدم حقاً كاملاً، بل تقدم جزءاً منه، لأنّ القرآن فقد إذا أخذ كاملاً يعطينا الحق كاملاً، إن سرد بعض الآيات منفردة أمر لا مفر منه، ولكن لابدّ وأن ندرك أن تأثير هذا التصرف يظل محدوداً فالأمر شبيه بلوحة الفسيفساء، لأنّ القطعة السوداء أو الحمراء تعني ما تعنيه في انسجام مع بقية قطع اللوحة فقط. وأما إذا أخذنا كل قطعة بذاتها فإنها لا تقدم إلا جزءاً أو لا تقدم شيئاً من جمال اللوحة التي تتشكل منها. ومن أجل مزيد من الإيضاح سأضرب بعض الأمثلة:

آية قرآنية تشرع للقصاص: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) (البقرة/ 178)، وآية أخرى تدعو إلى العفو والصفح: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى/ 40)، أو آية تقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) (المائدة/ 87)، وآية أخرى تقول: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (طه/ 131)، إلى غير ذلك من الأمثلة.

إنّ من يقرأ القرآن قراءة عابرة قد يخيل إليه وقوع التناقض في القرآن، بينما الأمر ليس كذلك قطعاً. بل على عكس ذلك. وحقيقة الأمر أنّ المسألة تتعلق بأبدع وأرفع ميزة يمتاز بها القرآن والإسلام، وهي التجانس التام بين الأمور التي تظهر متناقضة لأوّل وهلة، لأنّ القرآن لا يطالبنا بأمر واحد، بل يطالبنا معا. فهو لا يريد منّا القصاص فقط لأنّه يطالبنا بالعفو أيضاً، والعكس بالعكس، كما لا يفرض علينا السعي للآخرة وحدها لأنّه يريد منا السعي لهذه الدنيا أيضاً، أي لا يطالبنا أبداً بالسعي لحياة دون أخرى.

لذلك لا يتحقق كمال الإيمان في المسلمين الذين لا يعرفون غير العقاب (ولو كانوا على حق) لأنّهم لم يعفوا، كما لا يتحقق كمال الإيمان في الذين لا يعلمون غير العفو ولا يجازون عن سيئة بسيئة مثلها. إذن فالمسلم الكامل هو الذي يعرف مقداراً معتدلاً للأمرين معاً.

وهذه النتائج التي استخلصناها سابقاً يمكن التوصل إليها فقط إذا أخذنا من القرآن الكريم المعنى كاملاً وليس باقتضاب بعض الآيات. لذلك أرى أنّ هذا الأسلوب هو أفضل وسيلة ترتقي بنا إلى مستوى فهم كامل بحقيقة الإسلام وهدف رسالته.

القرآن الكريم، مع فواصل زمنية ضرورية طبعاً وهذا أضمن طريق لاكتشاف ما يمكننا تسميته بـ"إشعاع النور القرآني"، لأن كل قراءة جديدة للقرآن الكريم ستكشف لنا شيئاً جديداً. طبعاً، بقي القرآن الكريم كما هو دونما تغيير، ولكن تغير شيء ما: تغيرنا نحن، تغيرت الظروف المحيطة بنا، أو تغير العالم الذي نعيش فيه. وهذه التغيرات الطارئة هي التي مكنتنا من الغوص في عمق جديد غفلنا عنه تماماً أثناء قراءتنا السابقة للقرآن الكريم، وأصبحنا فجأة نسمع في أعماق قلوبنا صدى لآيات كنا قد غفلنا تماماً عن معانيها سابقاً.

ويمكن لكل منا التأكد من ذلك بنفسه، ولكنني سأسوق هنا بعض الأمثلة من تجربتي الشخصية.

منذ زمن وأثناء قراءة القرآن الكريم كنت أتوقف عند آيات تتحدث عن العمل والجهاد والعدالة.

أذكر جيِّداً أن آية وجوب رد العدوان والاستبداد كانت قد ملكت على عقلي. عندما يتحدث القرآن الكريم عن شخصية المسلم السوية يذكر من بين ما يذكره أنّه: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى/ 39).

وكنت أنتهز كل فرصة للحديث عن الآية المذكورة. ولكن اليوم تستحوذ على الآيات التي تتحدث عن الله سبحانه وتعالى، وبهرجة هذه الدنيا وسرعة زوالها، أي الآيات التي تحث على التأمل وليس على الحركة. أذكر جيِّداً أن الآية التي تدل على زوال كل شيء ما عدا وجه الله عزّوجلّ، أثرت في تفكيري تأثيراً بالغاً، لأنّه وحده، سبحانه وتعالى، هو الحقيقة التي لا تنقضي: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ) (الرحمن/ 26-27)، أي أنّ الله وحده باق، فهو الحق وحده والحقيقة الوحيدة.

وعندما انتقلت أمي إلى رحمة الله، وكان قلبي يعتصر ألماً وحزناً، كنت لا أفارق سورة الفجر، وأقف دائماً عند هذه الآية البديعة: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) (الفجر/ 27-29).

ففي كل مرّة كانت عيني تذرف دمعاً، ولكنني لم أجد سلوانا خيراً من هذه الآية الكريمة، وكنت أتساءل: من يمكنه أن يقدم للإنسان كلمة عزاء أبلغ من هذه الكلمات، إذ قدر له أن يقبل وجه ولده الميت؟

إذن، فالقرآن الكريم شريعة وتكبيرة جهاد في ظرف ماء، وفي ظرف آخر سلوان لما لا مفر منه من نوائب الدهر. فبناء على حالتنا الشخصية سيجذب انتباهنا شيء ما، وفي حالة أخرى شيء آخر غير الأول.

كما يتعلق هذا الاكتشاف بأعمال وأصداء قرآنية مختلفة بأحوال الإنسان الخاصة، كذلك يتعلق بظروف تاريخية على مستوى المجتمع، وحينئذ ترتكز أنظارنا على إبراز بعض الآيات القرآنية المتعلقة بذلك. ففي المجتمع الذي تمزقه التفرقة العنصرية تعطى الأولوية للآيات الدالة على مساواة جميع الناس والنشأة المشتركة للإنسانية، مثل الآية الأولى في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء/ 1).

وفي مجتمع تنتهك فيه الحقوق الدينية أو تنخر فيه تفرقة من أي نوع كانت، لابدّ أن تبرز هذه القاعدة الصارمة المكونة من ثلاث كلمات فقط: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256).

نحن المسلمين لا نفرق بين الآيات القرآنية، ولكن غير المسلمين يكادون يجمعون على أنّ هذه الآية القصيرة عن التسامح الديني هي أرفع وأبدع آية قرآنية. وهكذا يمكننا مواصلة التأمل في هذا الاتجاه، ولكنه يخرج بنا عن إطار هذه المقالة القصيرة.

وإذا كنا في معرض الحديث عن كيفية قراءة القرآن الكريم، فإنّه لابدّ لنا أن نشير إلى ما يعرف بترتيل القرآن الكريم، أو الاستماع إلى تلاوة القرآن. يرى بعض الناس أن مثل هذا الأمر قليل الفائدة، نظراً لأنّ أغلبية المسلمين لا يفهمون ما يتلى عليهم. أراني ملزمة بالقول بأنني لا أوافق على هذا الرأي. ولا يسعني هنا إلا أن أذكر حادثة لا أظنني سأنساها أبداً.

عقد مؤتمر دولي قبل مدة، ناقش موضوع مشاكل وعوائق النهضة الإسلامية.

وشارك فيه عدد كبير من العلماء والمفكرين الذين قدموا بحوثاً وآراء عن تجديد الفكر الديني والإسلامي. كان كل يوم عمل يفتتح ويختتم بتلاوة من آيات القرآن الكريم يتلوها أحد أشهر قراء القرآن في العالم.

كان الحضور يستمع باهتمام إلى كلمات المحاضرين والعلماء، ولكننا كنا نشعر بوجود مئات الحاضرين في القاعة: هذا يتهامس مع من يليه، وهذا يحرك كرسيه وهذا يتصفح أوراقه. وهكذا ولكن بعد لحضات من شروع القارئ في تلاوة القرآن توقفت الحركات فجأة وهيمن الهدوء. أثناء توقف القارئ للتنفس لم يكن يسمع شيء بل خيل إلي ان جميع الحاضرين توقفوا عن التنفس أيضاً.

هذا هو الهدوء الذي فيه يستمع الناس إلى خفقان قلوبهم بشكل متزن. وكانت كلمات القرآن التي خرجت من فم هذا القارئ أشبه بنهر جار، يجري هادئاً وصامتاً حيناً، ثمّ لا يلبث أن يتحول إلى شلالات تأتي لتأخذك وتحملك بعيداً.

ولكن قمة الحدث الذي لا يوصف كانت في اليوم الأخير، عندما عزم القارئ أن يتحف الحضور بهدية خاصة قبل الفراق، لذلك أختار تلاوة سورة الرحمن، هذه السورة البديعة المشهورة بجمال أسلوبها وتناسقها. أظنني إلى الآن عاجزة عن وصف الحالة التي كنت فيها. لم أكن أعرف معنى آيات هذه الآية المتكررة: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن/ 13)، ولكنني شعرت بأ،ني أفهم آياتها تماماً، أنا وجميع المنصتين إلى التلاوة. بعد الانتهاء من التلاوة في كل مرة من أيام المؤتمر أجد نفسي اقترب فأقترب من الآخرين، وكنت أقرأ الإحساس في وجوه الآخرين كذلك، كأنهم يريدون القول: ألا ترون، ألسنا إخوة في الإسلام؟

بعد هذه الواقعة لن اجرؤ على تقليل أهمية الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم بدون فهم، لأن قلوب جميع المسلمين تفهم القرآن بشكل أو بآخر.

وأود إنهاء هذه المقالة القصيرة بالتذكير بأن قراءة القرآن أشبه ما تكون بسفر في بلاد معروفة ومجهولة.

يسلك رجلان طريقاً واحداً، ويكون أحدهما متأثراً بانطباعات السفر ويشعر الآخر كأنّه قطع مدة سفره مغمض العينين، لأنّ الأمر يا يتعلق بالمناظر والمدن التي مرا بها، بل يتعلق بهما وحدهما، إذن فكل إنسان سيجد في القرآن من المعاني بقدر منزلته وإيمانه.►

ارسال التعليق

Top