• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

هوى النفس والعقل

إيمان مغازي الشرقاوي

هوى النفس والعقل

◄كلّنا يدّعي حبّ الله عزّوجلّ، المطيع منا والعاصي على السواء، لكن أُولى علامات حبّه - سبحانه - الذي ندّعيه هو الموافقة والاتباع، ومخالفة النفس الأمارة بالسوء وهواها، قال الحسن البصري: "زَعِم قوم أنّهم يحبّون الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (آل عمران/ 31). وقال الحسن: "قال أصحاب النبيّ (ص): يا رسول الله، إنّا نحبّ ربّنا حبّاً شديداً"، فأحبّ الله أن يجعل لحبّه علماً فأنزل الله هذه الآية.. والمحبة الصادقة تعني المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض المكروهات، قال الله عزّوجلّ: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة/ 24).

ومن هنا، يجب على كلّ مسلم ألا يجعل اتّباع الهوى يقطع عليه طريقه الموصلة إلى حبّ الله ورسوله، وألا يقدِّم هواه في حبّ هذه الأصناف على حبّ الله ورسوله، وأن يقدِّم مراد الله ورسوله على مرادهم، وأن ينتهي أوّلاً عن نواهي الله ورسوله قبل أي أحد. قال سهل بن عبدالله: "علامة حبّ الله حبّ القرآن، وعلامة حبّ القرآن حبّ النبيّ (ص)، وعلامة حبّ النبيّ (ص) حبّ السُّنّة، وعلامة حبّ الله وحبّ القرآن وحبّ النبيّ وحبّ السُّنة حبّ الآخرة".

- الهوى والعقل:

والهوى قد يقطع الطريق على العبد إذا ما اتّبعه بغير هدى من الله، والمعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق: أنّه الميل إلى خلاف الحقّ، كما في قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (ص/ 26)، وقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41).

وقد يُطلق الهوى بمعنى المحبّة والميل مطلقاً، فيدخل فيه الميل إلى الحقّ وغيره. قال الشعبي: إنّما سُمِّي الهوى هوى لأنّه يهوي بصاحبه في النار. وأصل الهوى الميل إلى الشيء، ويُجمع على أهواء.

وقال ابن عباس: الهوى إله يُعبد من دون الله. وقال: ما ذكر الله هوى في القرآن إلّا ذمّه، قال الله تعالى: (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) (الأعراف/ 176)، وقال تعالى: (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف/ 28)، وقال تعالى: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) (الرُّوم/ 29)، وقال تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ) (القصص/ 50).

وقال أبو الدرداء (رض): إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه، فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان عمله تبعاً لعلمه فيومه يوم صالح. وقد أحسن مَن قال:

إنّ الهوى لَهُوَ الهوانُ بعينه**** فإذا هويتَ فقد كسبتَ هوانا

أمّا العقل، فهو الذي يعقل هواك ويحبسه عن الانطلاق الضار، ويمنعه أن يشطح بصاحبه بعيداً، لذا قال بعض الحكماء: "العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع". وقال بعض العلماء: "ركَّب الله الملائكة من عقل بلا شهوة، وركَّب البهائم من شهوة بلا عقل، وركَّب ابن آدم من كليهما، فمَن غَلِب عقله على شهوته فهو خير من الملائكة، ومَن غلبت شهوته على عقله فهو شرّ من البهائم".

وقال أبوالحسن الماوردي: وأمّا الهوى فهو عن الخير صادّ، وللعقل مضاد؛ لأنّه يُنتج من الأخلاق قبائحها، ويُظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل ستر المروءة مهتوكاً، ومدخل الشرّ مسلوكاً.. ولما كان الهوى غالباً، وإلى سبيل المهالك مورداً، جعل العقل عليه رقيباً مجاهداً، يلاحظ عثرة غفلته، ويدفع بادرة سطوته، ويدفع خداع حيلته، لأنّ سلطان الهوى قوي، ومدخل مكره خفيّ.

    

- حوار بين الهوى والعقل:

وكأنّي بالهوى والعقل يتنازعان ويتصارعان بسيوف الحروف، كلٌّ يريد النصر لنفسه والفوز لصاحبه، ويتجاوران.. فالهوى يفتخر ويتيه منتشيئاً وكأنّه أحرزه؛ فيقول للعقل: أنا الهوى الذي حينما استهويك أيّها العقل الصغير فإنّني أسير بك كيفما أريد وحيثما أشاء. فيرد عليه العقل ليفحمه: وأنا العقل أدعوك إلى الله، وأعقلك عن الشرّ، وأقيدك عن المعاصي، وأحبسك عن البدعة، فلا تفعل إلّا ما أريد. وتستمر المناظرة بينهما والجوارح تشهد:

* أنا الهوى المشتق من الهُويّ، وقد أهوى بك في غفلة منك ودون أن تشعر إلى أسفل سافلين.

* وأنا العقل صنعة الملك العليّ، أدلّ على عظمته، وأدعو لعبادته، وأفكر في طاعته، فأسمو بصاحبي إلى أعلى عليين.

* أنا الهوى أجمع أتباعي على مائدة البدعة ووليمة المعصية، أصحابي كثيرون وأتباعي معروفون، الشيطان صديقي، والنفس الأمارة بالسوء قرينتي، وصاحبي هو الإنسان المتبع لي على غير هدى، فبارز ربّه بالعصيان حين نحّاك عنه جانباً أيّها العقل.

* وأنا العقل جامع العقلاء على تناول السُّنة وحلاوة الطاعة، ولذة القُرب ومائدة العلم، الله خالقي، وأهلي هم العقلاء الذين يسيرون على منهج الله ورسوله، وأصدقائي من العلماء الذين يحذرون الناس من شرِّك أيّها الهوى، وقرنائي من العاملين المخلصين الحريصين على اتباع السُّنة.

وأسباب اتّباع الإنسان هواه كثيرة، وعلى رأسها الجهل، يقول الله تعالى: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (الروم/ 29). ويقول: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ) (القصص/ 50)، أي يتبعون آراء قلوبهم وما يستحسنونه ويحبّبه لهم الشيطان بلا دليل ولا حجة مأخوذة من كتاب الله. ويقول: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (محمّد/ 14). ويقول تعالى للمشركين: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) (النجم/ 23)، فقد اتبعوا هوى أنفسهم، لأنّهم لم يأخذوا ذلك عن وحي جاءهم من الله، ولا عن رسول الله أخبرهم به، وإنّما اختراق من قبل أنفُسهم، أو أخذوه عن آبائهم الذين كانوا من الكفر بالله على مثل ما هم عليه منه.

ومنها الكبر.. لذا نجد في القرآن الكريم أنّ ربّنا تبارك وتعالى ينعت بني إسرائيل بالعتوّ والعناد والمخالفة والاستكبار على الأنبياء، وأنّهم إنّما يتبعون أهواءهم: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) (البقرة/ 87).

ومنها غفلة القلب.. قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف/ 28).

كما أنّ من أسباب اتّباع الهوى حبّ الحياة الدنيا، وضعف الإيمان، والصُّحبة السيِّئة، والإعجاب بالنفس، والإصابة بأمراض القلوب المختلفة التي هو من أسبابها وهي نتيجة تابعة له.  

- آثار اتباع الهوى:

قد يتسبّب الهوى في قطع طريق الخير على الإنسان، ويصده عن اتّباع الحقّ ويعطله عن حُسن العمل، وقد يتسبّب في إصابته بأمراض قاتلة باللغة الخطورة لها من الآثار السلبية الضارة على الفرد والمجتمع، بل على النفوس والأرواح، ومن ذلك أنه:

* يُعطِّل الجوارح ويضل عن سبيل الله.. قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية/ 23). فهو إنّما يأتمر بهواه فمهما رآه حسناً فعله ومهما رآه قبيحاً تركه، ولا يهوى شيئاً إلّا اتّبعه.

* يؤدي إلى التكذيب وعدم الاستجابة لله ورسوله.. قال تعالى: (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) (القمر/ 3). وقال تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص/ 50). وقال تعالى: (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) (طه/ 16).

* يُذهب النعم.. قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) (الأعراف/ 175-176).

* يمنع صاحبه من العدل، ويحمل على الشهادة بغير الحقّ.. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء/ 135)، وقوله: (فَلا تتّبِعُوا الهَوَى أن تَعْدِلُوا)، أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أُمورك وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال.

* يؤدي إلى الظلم في الحكم.. قال تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (ص/ 26)، فإن اتباع الهوى مُرْدٍ ومهلك. قال الشعبي: أخذَ الله عزّوجلّ على الحكّام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمناً قليلاً. (القرطبي).

* يؤدي إلى التفريط في العمل.. قال تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف/ 28)، أي شُغل عن الدِّين وعبادة ربّه بالدنيا، "وكان أمره فرطاً"، أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع.

* يؤدّي إلى ظهور البدع والعمل بها.. وقد تكون في العقائد والعبادات، وإنّما تنشأ البُدع من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يُسمَّى أهلها أهل الأهواء، وكذلك تكثر المعاصي كأثر من آثار الهوى حين يقطع الطريق أمام الطاعات.

* يقطع طريق العمل الصالح.. قال النبيّ (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".

إنّ صُور اتباع الأهواء في حياتنا كثيرة ومتنوعة، وقد نغفل عنها ولا نشعر بها.. وللأسف فإنّ هناك أُناساً يدّعون حبّ الله عزّوجلّ لكن أعمالهم وأخلاقهم وعقيدتهم وعبادتهم ومعاملتهم تتنافى مع هذا الحبّ، لأنّهم اتّبعوا أهواءهم دون شرع الله، فمنهم مَن لا يصلي ولا يصوم، ويقول: إنّ الله غفور رحيم! ومنهم مَن يصوم صوماً ظاهراً عن الطعام لكنّه يتّبع هواه ويفطر بجوارحه وسوء خلقه فتضيع الحكمة من الصيام.

ومنهم مَن أدخل الخلل في عبادته بالنقص أو الزيادة ممّا لم يأمر به الله ورسوله، ظنّاً منه أنّه زيادة في الخير، ونسي أنّ العبادات توقيفية يلزمه فيها اتباع الله ورسوله والالتزام بالمنهج المحدَّد، وأنّ النبيّ (ص) يقول: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".

ومنهم مَن يرتكب المنكرات والفواحش والزنى والفجور اتباعاً لهواه، ومنهم مَن لا يعترف بالحجاب ويرى ألا ضرورة له في هذا العصر، أو ينادي بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في الميراث وغيره تحكيماً لهواه، أو يحاول أن يثبت أن شرع الله لا يصلح لهذا الزمان!

كما أنّ هناك مَن تدّعي محبّة ربّها عزّوجلّ لكنّها تتبع هواها وتترك له زمام قيادتها، وهي بعيدة كلّ البُعد عن أوامر ربّها قريبة من نواهيه؛ إذ تضيِّع حقّ نفسها عليها من التعبّد، وحقّ أولادها من الرعاية وحقّ زوجها من حُسن التبعل وحقّ أهلها من الصلة، أو تترك لنفسها العنان وتتبع هواها فتتوهم ظلم الإسلام للمرأة وتدعو إلى تحريرها! فتهلك من حيث لا تشعر؛ إذ تتخلع عن هُويّتها ودينها وسترها وحيائها ولباسها وخلقها، ظنّاً منها أنّ في هذا الخير لها!

ومن الناس مَن يتبع هواه عن جهل حين يفصل بين العبادة والسلوك وبين الدِّين والخلق، وبين القول والعمل، وما علم الإسلام كلّ لا يتجزأ!

ومنهم مَن يتبع هواه حين يذهب عقله بمسكر أو مخدر، أو يشوش على فكره بالاعتقادات الباطلة والأفكار الهدامة والوساوس الخبيثة!

ومن مَن يتبع هواه في الحكم على الآخرين، وفي تأويل أقوالهم وأفعالهم الدينية والدنيوية من غير علم فيقع في سوء الظن والتّهمة لهم بغير دليل، وتتحوّل ساعات عمره إلى معركة من التأويلات والظنون والغيبة والنميمة، التي تتحوّل بدورها إلى ضغائن وعداوات وشحناء ومخاصمات، ومرجع ذلك إلى اتباع الهوى بغير حجة أو برهان.

ومنهم مَن يتبع هواه في معاملة زوجته بالتطفيف في حقّها وإهمال الأولاد، وقطع الأرحام، والإساءة إلى الجيران والأصحاب.

ومنهم مَن يتبع هواه في رضاه بالجهل ورضاه بالواقع الذي يعيشه دون سعي منه للتطوير والتحسين والتغيير!

ومنهم مَن يتبع هواه في حبّ الدنيا وتفضيلها على الآخرة والعمل لها!

ومنهم مَن يتبع هواه في إرهاب الآمنين ويعطي لنفسه الحقّ في الحكم عليهم بالموت دون وجه حقّ وبغير ذنب ارتكبوه!

ومنهم مَن يتبع هواه فيسلب أصحاب الحقوق حقوقهم، ويستبيح لنفسه أموالهم وأعراضهم ودماءهم، ويبرر لنفسه الرشوة والسحت والزور والكذب، فيخسر آخرته وإن كسب كنوز الدنيا كلّها!

ومنهم مَن يتبع هوان ويتلذذ بإيذاء إخوانه من البشر وتعذيب الأبرياء ولم تثبت بعد إدانتهم، دون أن تهتز به شعرة أو يطرف له جفن أو تدمع له عين!

والأمثلة كثيرة وكلّها توضح خطورة اتباع الأهواء ومضارها التي تقع على الفرد والجماعة وعلى الأسرة والمجتمع.. ومَن كان هذا حاله من الناس فقد عرّض نفسه وغيره للهلاك، والنبيّ (ص) يُحذِّر فيقول: "ثلاث مهلكات: شح مُطاع، وهوى مُتبع، وإعجاب المرء بنفسه" (الألباني، السلسلة الصحيحة). ويقول: "إنّما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم، وفروجكم، ومضلات الهوى".

- مفتاح الجنّة:

وحسبك في نبذ الهوى قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41).. أي خاف القيام بين يدي الله عزّوجلّ، وخاف حكم الله فيه، ونهى نفسه عن هواها وردها إلى طاعة مولاها وزجرها عن المعاصي والمحارم، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.

قال الحسن البصري: أفضل الجهاد جهاد الهوى. وقال ابن السماك: كن لهواك مسوِّفاً، ولعقلك مسعفاً، وانظر ما تسوء عاقبته، فوطِّن نفسك على مجانبته، فإن ترك النفس وما تهوى داؤها، وترك ما تهوى دواؤها، فاصبر على الدواء كما تخاف من الداء. وقال سهل بن عبدالله التستري: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك. وقيل لبعض الحكماء: من أشجع الناس وأحراهم بالظفر في مجاهدته؟ قال: مَن جاهد الهوى طاعةً لربّه، واحترس في مجاهدته من ورود خواطر الهوى على قلبه.

مَن ترك اتّباع الهوى ازداد إيمانه ونما وظهرت ثمراته عليه طاعة وحبّاً واتباعاً وموافقة ومراقبة وخوفاً وخشية وإنابة، وسلوكاً وخلقاً وقولاً وعملاً، فاستعن بالله ولا تكن صريع الهوى. قال وهب: إذا شككت في أمرين ولم تدرِ خيرهما فانظر أبعدهما من هواك فأته، وحسبك قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41).

وإذا أمرتك نفسك في لحظة ضعف باتباع هواها في غير ما يرضي ربّها فاعلم أن ترك الهوى مفتاح الجنّة، وأنّ اتّباع الهوى يقطع عليك طريقك إلى دار الخلود: "ألا إنّ سلعة الله غالية، ألا إنّ سلعة الله الجنّة". ►

ارسال التعليق

Top