إنّ نظرة إجمالية سريعة وخاطفة للواقع التاريخي للأُمّة الإسلامية بعد حادثة عاشوراء ـ وعلى جميع مستوياته السياسية والاجتماعية والدينية والأخلاقية ـ تُثبت بأنّ المسلمين عاشوا حالة من التراجع والانحدار والابتعاد عن التعاليم الإسلامية.
فعلى المستوى السياسي، فإنّه بعد أحداث كربلاء كانت الدولة الإسلامية مفكَّكة وموزَّعة بين الأُمويين، ثمّ نشبت نزاعات وحروب انتهت بسيطرة الأُمويين وبسط نفوذهم على معظم المناطق، ولكن هذا الأمر لم يدم طويلاً، حتى حدثت الصراعات العائلية على تولّي مقاليد الحكم ما أضعف الدولة، ما عجّل بسقوط الدولة الأُموية على يد العباسيين.
وأمّا على المستوى الاجتماعي، فإنّ حال المسلمين لا يختلف عن وضعهم السياسي، فقد عاش المسلمون بعد واقعة عاشوراء ظروفاً اجتماعية سيئة تمثّلت بانتشار الفقر والفساد، وفقدان الأمن والاستقرار؛ بسبب الصراعات السياسية، مضافاً إلى تفشّي القمع والقهر والاستبداد من قِبَل حكّام الجور وولاة الظلم، كما ساعدت هذه الأوضاع على بروز ظواهر اجتماعية غريبة على المجتمع الإسلامي، كالتمييز على أساس العِرق والقومية. ولعلّ أفدح ما أصاب هذه الأُمّة هو أنّها حرمت نفسها من النبع الصافي للشريعة الإسلامية، وهم أهل البيت (عليهم السلام)، الثقل الثاني مع القرآن الكريم، اللذين جُعلا أماناً من الضلال متى تُمسك بهما مجتمعَين.
إنّ ما تقدَّم هو لمحة بسيطة على واقع الأُمّة الإسلامية بعد عاشوراء، تبيّن من خلالها أنّ الأُمّة فقدت هويتها ودينها، وأصبحت أُمّة مفكّكة ضعيفة الإرادة واهية العزيمة؛ ما مثّل انتكاسةً وتراجعاً خطيراً بسبب خذلانها لقادتها الشرعيين، وتركها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والباطل. في طيّات مواقف الإمام الحسين (عليه السلام) وبياناته وخطبه، بإمكان المتابع أن يرصد بعض عباراته التي تدلّ على أنّ الإمام كان يستشرف مستقبل الأُمّة، وما يؤول إليه مستقبلها، من الوقوع في الذلّ والخوف والهوان، فيما إذا خانت أمانتها وقصّرت في أداء واجبها، ولم تنصر الحقّ ليس فقط بعدم الوقوف إلى جانب أهله، بل بنصرة أهل الباطل وتقديم الدعم والعون لهم، بقتال أهل الحقّ ومناجزتهم وقتلهم. يُبيّن الإمام (عليه السلام) ما سيلاقيه من القتل على أيدي هؤلاء، وما سيحلّ بهم نتيجة ذلك في قوله: «وايْمَ الله، ليقتلُنّي، ثمّ ليُلبسنّهم الله ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وليُسلّطنّ عليهم مَن يذلّهم».
ويظهر من كلام الإمام (عليه السلام) ـ حين وصف الذلّ الذي سيحلّ بهم بأنّه شامل ـ أنّهم سيتجرّعون مرارة الذلّ على أكثر من صعيد، سوى ما يعانونه من القتل والتنكيل على أيدي حكّام الجور والظلم، وهذا ما حصل فعلاً وشهده تاريخ المسلمين، ولا نظنّ أنّ القضية مختصّة بمَن باشروا قتل الإمام (عليه السلام)، وإنّما يشمل كلّ مَن علم بثورته ونهضته ولم ينصره خوفاً أو طمعاً، وكلّ مَن رَضِي بذلك ممّن عاصر نهضته أو من الأجيال اللاحقة.
وفي قول أخر: «حتى يكونوا أذلّ من قوم سبأ؛ إذ ملكتهم امرأة منهم، فحكمت في أموالهم وفي دمائهم»، وهو ما يرمي إلى أنّ الأُمّة بعد قتلها الإمام الحسين (عليه السلام) سيتحكّم بمصيرها ومقدراتها أراذلُها؛ حتى يوردوها في مهاوي الردى والهلكة، ويظلّ أهل العقل والرأي مقهورين مقموعين، كما حصل مع قوم سبأ، بل هم أضلّ؛ لأنّ تلك المرأة كانت تمتلك رجاحة في عقلها دلّ عليه تصرُّفها مع طلب النبيّ سليمان (عليه السلام). ولكن تبقى المرأة بشكل عامّ لا تمتلك مقوّمات القيادة التي تحتاج إلى حزم وقوّة وصبر وثبات في المواقف الصعبة والحرجة، وبما أنّ المرأة لا تتمتع بهذه الأُمور بحكم طبيعة تكوينها؛ فيصبح تبوّؤ المرأة لمنصب الحكم والقيادة بدل الرجال علامة على ذلّ وهوان هؤلاء الرجال.
وهذه النصوص لا تحتاج إلى تعليق لبيان دلالتها على ما يُصيب هؤلاء من ذلّ وانحطاط، جرّاء ما عملت أيدهم من انتهاك حرمات الله بخذلان الإمام الحسين (عليه السلام)، ثمّ قتله هو وأهل بيته وأصحابه، وسبي ذراريهم، وانتهاب ثقلهم. نعم، وإن قيل: إنّ هذه النصوص ربّما تختصّ بالذين باشروا هذه الأعمال، لكن يمكن أن تعمّ كلّ مَن هُم على شاكلتهم في ذلك الوقت، من أعوان الظلمة وسلاطين الجور، وممّن سيأتي بعدهم على مرّ الدهور، وهم كُثُر طالما تظاهروا على أهل الحقّ من الأئمّة والمصلحين والثائرين، ومارسوا ضدّهم كلّ أشكال الاضطهاد والاستبداد.
وبهذا البيان الذي تقدّم، ومن خلال ما عرضناه سريعاً من وقائع تاريخية وشواهد نصّية تشهد بمجموعها على صحّة الرؤية، التي تذهب إلى أنّ الأُمّة انتكست بعد ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) وأصابها الوهن والضعف في مجمل تاريخها، إلّا من بعض الفترات المضيئة هنا وهناك.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق