◄التفكير بصفته نشاطاً بشرياً، إنما يسعى في المحصلة للحكم على الأفعال والأشياء بعد أن تنقلها الحواس الإنسانية إلى الدماغ، وما إن يتبلور حكم العقل ويظهر حتى يتخذ لنفسه سبيلاً أو طريقاً أو وجهة إجبارية يميلها عليه الحكم نفسه.. هذا السبيل أو الطريق أو الوجهة، هو ما يطلق عليه وجهة النظر، فوجهة النظر ليست الحكم نفسه، وليست كذلك السلوك المبني على هذا الحكم، إنما هي الطريق أو السبيل أو الوجهة التي يقصدها حكم العقل ليتحول بعد ذلك إلى سلوك.
على أي حال فإنّ هذا السلوك الذي نشأ عن وجهة النظر إنما نشأ كرد فعل للواقع المراد اتخاذ موقف بشأنه، وقد يأخذ هذا الموقف أشكالاً سلوكية عديدة، كالفعل أو القول أو الإنكار والاستهجان، أو التقرير والموافقة، أو اللامبالاة باعتبار أنّها سلوك سلبي، ومن هذه الأشكال السلوكية الضحك أو البكاء أو الفرح أو الحزن أو الخوف أو الشجاعة... إلخ.
ولأنّ وجهة النظر تؤثر بسلوك الأفراد والجماعات وطرق معيشتهم وتفكيرهم، فلابدّ من إماطة اللثام عن وجهة نظر المسلم ووجهة نظر الآخر، تجاه الأفعال والأشياء.
نحن إذن بصدد معرفة رؤى (جمع رؤية) للأفعال والأشياء بمنظار العقل (الفكر)، فالرؤية تمثل "عملية تفسير للأشياء والأحداث في البيئة لجعلها ذات هدف".
وبما أنّ الرؤية نشاط تفسيري، فمحلها العقل أو الفكر، ومجال بحثها، وفهم معطياتها منتجات العقل: كالعلوم والفنون، والآداب والفلسفات، والفقه واللغات، "كذلك المعرفة من حيث هي معرفة إنما هي نتاج العقل، أي أنّها صالحة للتفكير، وصلاحها مستمد من واقعيتها، أي وجودها كواقع محسوس".
وهذا التعريف لوجهة النظر يلزمها أن تكون صورة مطابقة لحكم العقل، لأجل ذلك لا يمكن أن تجد عند الأقوياء من العقلاء تبايناً أو اختلافاً بين أحكام أفكارهم ووجهات أنظارهم، وبالتالي تجد سلوكيات هذه الفئة من الناس وتصرفاتهم مطالبة بوجهات نظرها، فلا ينافقون ولا يتملقون، لأنّهم مصدقون لأحكام عقولهم مؤمنون بها.
بالمقابل يكثر هذا التباين والتناقض بين وجهات أنظار المهتزين فكرياً والضعفاء الذين يتصرفون بما يناقض وجهات أنظارهم، وهذا نابع من ضعف إيمانهم بأحكام عقولهم، وتكذيبهم لها، فعقولهم على سبيل المثال أقرت بعناية الخالق لما خلق، ولكنهم لا يؤمنون به، فنجد الواحد منهم يحمل وجهات نظر عديدة فتراه ينسب الخلق للطبيعة، والعناية للقانون البيئي فهو مهتز فكرياً، متذبذب سلوكاً ومواقف فضعف الفكر يؤدي إلى تعدد وجهات النظر، وتناقض التصرفات، ومَن كانت حاله كذلك وصفت وجهة نظره بالضلال، لأنّ حكم عقله غير متمكن من تحديد مسار معين، فيتخبط ويختار مسارات عديدة وفق ما تمليه عليه أحاسيسه المجردة وميوله القلبية (المتقلبة) وغرائزه وحاجات جسده العضوية وفرق كبير بين التفكر والإحساس، فالإحساس والغريزة غير العقل والعلم غير الهوى.
لأجل ذلك، لابدّ للمسلم أن يتفكر ويتوسع في العملية الفكرية، لأنّ همه منكب على تحديد وجهة نظره تجاه الأفعال والأشياء ليخلص بالمحصلة إلى اختيار السلوك الأمثل والأعدل، وإلّا وقع في الممنوع ورتع في المحظور، ظاناً أنّه يحسن صنعاً لكنّه غارق في الضلالة.
تحديد وجهات النظر:
"يعتمد التفكير على ما استقر في ذهن الإنسان من معلومات عن القوانين العامة للظاهرات: ففي عملية التفكير يستخدم الإنسان ما توافر لديه على أساس من الخبرة العملية السابقة من معلومات عن القوانين والقواعد العامة التي تعكس العلاقات والمبادئ العامة للعالم المحيط بنا".
انظر إلى توأم داخل أسرة واحدة رغم تلقيهما تربية واحدة، ومعلومات واحدة، نجد أنّ التوأمين يختلفان إزاء واقع معين وهما لا يختلفان في الحكم على وجود هذا الواقع، إنما في فهم دلالة الحكم على الواقع، فرغم أنّ الشقيقين التوأم تلقيا غذاء متشابهاً وتعرضاً لظروف بيئية واحدة، ومعلومات واحدة، إلّا أنّ المدخلات المباشرة وغير المباشرة التي تعرّض لها كلّ منهما، رغم وجودهما في بيئة واحدة هي التي تحكمت في فهم دلالة الحكم على الواقع سواء كانت هذه المدخلات نفسية كالغيرة والميل القلبي وتقليد الأبوين والصدمات النفسية.. إلخ، أو مدخلات عضوية مرتبطة بالميلاد كإصابات الولادة والأمراض التي تحدث توترات في الجهاز العصبي وما يتبع المرض من استخدام للعقاقير التي تحتوي مواد مؤثرة في الجهاز العصبي كالمهدئات والمنشطات.
وحتى لو صح أنّ التوأم تعرضا لمدخلات مباشرة وغير مباشرة واحدة، داخل محيط الأسرة، وهذا أقرب إلى المحال فإنّ المدخلات التي سوف يتعرض لها كلّ منهما خارج محيط الأسرة، سوف يكون لها تأثير كبير على الجهاز العصبي لكلّ منهما كتأثير الأصدقاء والمدرّسين.
أما الذي يصحح نظرة الإنسان للواقع فهي المعلومات الصحيحة التي يتلقاها من الأبوين وغيرهما وإجراء التجارب أمام الإنسان منذ طفولته لإثبات صحّة المعلومات أمامه.
ما بيننا وبين الآخر:
جبل البشر جميعاً، على السعي لجلب المنافع لأنفسهم، كما جبلوا على درء المفاسد عنها. إنّ أعمارهم كلّها سواء قضوها يقظين أو نائمين، إنما هي أوقات يسعون من خلالها لتحقيق هاتين المصلحتين، ولا خلاف في ذلك بين قوم وقوم، مؤمنين أو مكذبين ولكن الاختلاف ينصب على النظرة إلى تلك المصالح وطرق تحقيقها، وما ذلك الاختلاف فيما بينهم إلّا امتداداً للاختلاف في وجهات النظر للأشياء والأحداث، وتبعاً لتغير وجهات النظر تتغير نظرة كلّ منهم لمصالحه، وكما تبيّن معنا فإنّ الذي يحدد وجهة النظر حكم العقل فما حكم عليه بثقة وسعى لتحقيقه، وما حكم عليه بأنّه قبيح فرّ منه وتجنبه واعتبره مفسدة.
ولا شكّ بين الناس مسلمين وغير مسلمين أنّ الحكم على الأشياء والمسميات ودلالاتها السلوكية من ناحية الحسن والقبح مرده واختصاصه للعقل وحده، فالنظرة إلى النار وخاصية الإحراق فيها، والماء وخاصية الإحياء فيه، والقلم وخاصية الكتابة فيه، إنما يتم الحكم عليها بواسطة العقل مباشرة دون اللجوء لأي إملاءات من أحد.
وكون السرقة فعل قبيح يتساوى البشر جميعاً في الحكم على قبحه، فينكرونه ويتأذون منه وينفرون من مرتكبه ولو كان من ذوي القربى حتى إنّ اللص نفسه يدرك قبحه فيرتكبه في أماكن وأوقات معينة خشية أن يراه أحد.
ومن ذلك أيضاً المرض والفقر، وتجويع الأطفال والنساء والعجائز أو قتلهم، وإلقاء الأذى في الطرقات، واستغلال الضعفاء والاعتداء على خيرات بلادهم، والتمييز بين الناس على أسس عنصرية. كذلك لاتفاوت بين الناس في الحكم على حسن الغنى والصحّة والشجاعة وإنقاذ الأطفال من ويلات الحروب وحسن الجوار وصلة الأرحام والمساواة بين الناس على أساس أنّهم من أصل واحد ومن حقّهم التمتع بخيرات الدنيا دون تمييز أو تفرقة.
الحكم على الحسن والقبيح:
أما القاعدة المتعلقة بشأن الحكم على الحسن والقبيح من الأشياء والمسميات ودلالاتها السلوكية، والتي يعول عليها دون غيرها، فهي طبع الإنسان وفطرته، لأنّ ذلك يرجع إلى واقع الشيء الذي يحسه الإنسان، ويدركه عقله مباشرة، وطالما أنّ الإنسان يشعر بتلك المسميات حسناً أو قبحاً بعقله، دون مرجعية معرفية تمليها عليه تصورات خاصة غير الفطرة والطبع، لذلك كان العقل وحده هو الذي يحكم عليها بالحسن والقبح، ولن تؤثر في حكمه أي مؤثرات أخرى حتى لو كانت قهرية (جبرية) لأنّ الفطرة هي المنتصرة في النهاية.
والقاسم المشترك بين تلك الأشياء والمسميات ودلالاتها السلوكية، أنّها واقع محسوس بنفسه أو قابل للإحساس والشعور، أو واقع محسوس بأثره، كالإحساس بالكهرباء أي بأثرها.
ولكن حكم العقل على الحسن والقبح، لا يعتبر مصلحة أو غير مصلحة، فالعقل لا يستطيع أن يتبيّن المصلحة فيما حكم عليه من حسن أو قبح، لأنّ حكمه هنا إخبار عن واقع (حقيقة) الشيء وعن حقيقة ميول الإنسان الفطرية إزاء الشيء لأجل ذلك تتحد وجهات النظر لدى سائر البشر تجاهه، وتختلف فيما بعد ذلك، أي في الحكم على هذا الشيء مصلحة أو غير مصلحة أي مدحاً أو ذماً.
هنا يبرز الفرق بين المسلمين والآخرين، فبينما أذن الآخرون لعقولهم بالحكم على وجه المصلحة أو عدمها في المسميات والأفعال، أي سمحوا لعقولهم بالبحث عن أمور غيبية، غير محسوسة (ليست من اختصاص العقل أصلاً) فرّق الإسلام بين ما يختص به العقل من أشياء وأفعال وطواها تحت ظلال القاعدة الشرعية العلمية والذهبية "أنتم أعلم بأمور دنياكم" وبين ما يختص به الشرع بمعاونة العقل (الوصول لحكم الشرع لا يكون إلّا بالنظر، وفق أصول فقهية) وطواها تحت ظلال قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا) (الأحزاب/ 36).
والذي يعين المسلم على إصدار الحكم على مصلحته في الأشياء والأفعال أو عدم مصلحته، هو حكم الشرع، فيما ينحصر دور العقل هنا على البحث والنظر والتنقيب والتدبر في القرآن وبيانه من السنّة النبوية للوصول إلى حكمه والنزول عنده دون مماطلة أو تأخير أو تسويف، لأنّ المماطلة بهذه الحالة تعتبر معصية أو مفسدة والله لا يحب المفسدين.
"والهدف من إصدار الحكم عند المسلم بالمحصلة: تعيين موقفه تجاه الفعل: هل يفعله، أم يتركه، أم هو مخير بين فعله وتركه، وتعيين موقفه تجاه الأشياء المتعلقة بأفعاله هل يأخذها أم يتركها أم يخير بين الأخذ والترك".
إنّ المصالح بالنسبة للمسلم لا تتحدد إلّا من خلال الشرع، فما مدحه الشرع فهو المصلحة وما ذمة فهو المفسدة.
هذه الحقيقة أكدتها أكثر من آية في كتاب الله كقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 216)، أي أنّ ما تظنونه مصلحة لكم قد يكون عين المفسدة، فالتزموا المصلحة بما شرع الله لكم، فالله يعلم وأنت لا تعلمون.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق