• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

وحدة الفكر والعاطفة والحركة

وحدة الفكر والعاطفة والحركة

 

◄"إذا آمن الإنسانُ بالأصل، فلا يمثِّل الفرعُ لديه شيئاً جديداً، بل يكونُ الفراغُ منطلقاً من الأصل الذي يمثلُ القاعدة، ذلك أنّ الخط يختزنُ في داخله كلَّ الفروع".

 

الأصول والفروع:

السؤال الذي يفرض نفسه علينا دائماً في عملية الانتماء ولا سيّما الانتماء إلى الإسلام: هل أنّ الإنسان المنتمي يواجه كلّ الخطوط التفصيلية التي يتحرّك فيها انتماؤه، أم أنّه يملك الخيار بين أن يرفض بعضاً ويقبل بعضاً؟ فيرفض ما لا ينسجم مع مزاجه أو مع مصالحه أو بعض أوضاعه الاجتماعية ويقبل ما ينسجم مع ذلك. أو أنّ قضية الانتماء تقتضي تركيز القاعدة التي تجعل انتماءك شرعياً من خلال قناعاتك بالفكرة وبالخط. فإنّ عليك أن تقبل كلّ فروعها جملة وتفصيلاً. لأنّ الإنسان إذا آمن بالأصل فلا يمثل الفرع لديه شيئاً جديداً، فلابدّ أن يؤمن به ولا يرفضه، بل يكون الفرع منطلقاً من الأصل الذي يمثل القاعدة. ذلك أنّ الخط يختزن في داخله كلّ الفروع.

وهناك نماذج من الناس تنتمي إلى فكر معيّن، فإذا صادفها خط من خطوط هذا الفكر بما لا ينسجم مع مزاجها ومع مصالحها رفضته وعللت ذلك بمختلف التعليلات، وأما إذا كان منسجماً معها انفتحت عليه.

 

الخطّان الفكري والعملي:

إنّ الله يحدثنا عن هذا النموذج، ثمّ يحدثنا بعد ذلك عن النموذج الإسلامي الذي يمثله المؤمنون في عملية انتمائهم إلى الإسلام. ففي "سورة النور" يقول تعالى: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا)، فهذا هو العنوان الكبير الذي يقدِّمونه أمام الناس عندما يعلنون انتماءهم الفكري إلى الإسلام وهو ما نصطلح عليه بـ(الخط الفكري)، ثمّ عندما تتحرّك التجربة في الواقع (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)، يعرضون وينحرفون ويتحدّثون بطريقة أُخرى أو يتحرّكون بخط آخر، وقد يكون كما قال تعالى: (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 47)، لأنّ المؤمن هو الذي يتحرّك في خطّه العملي وفي امتدادات خطّه الفكري بحيث لا يكون هناك أي فاصل بين منطق الفكرة ومنطق العمل.

فهؤلاء مؤمنون بالشكل فقط في حين أنّ مسألة الإيمان هي مسألة تتصل بالعمق، عمق الاقتناع في عقلك وعمق الإحساس في شعورك وعمق الحركة في اتجاهاتك. (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) (النور/ 48)، عندما يواجهون الواقع، فيما هو الحقّ وما هو الباطل، وقيل لهم إنّكم مؤمنون، والمؤمن لابدّ أن يرجع إلى الله وإلى رسوله، لأنّ الله تعالى يقول: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء/ 59)، تعالوا إلى الله والرسول ليحكم بينكم (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) (النور/ 48)، لا ينفتحون على هذه الدعوة ولا يستجيبون لله ولرسوله ولا يحكِّمون الله ورسوله، بل يحكّمون الطاغوت الذي يتحرّك في غير خط الله ورسوله (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ) (النور/ 49)، يأتوا إليه ويظهروا الإذعان والتسليم لا من موقع الإيمان بل من موقع معرفتهم بأنّ الحقّ لهم مما يجعل الإذعان إذعاناً بالمصلحة للذات لا بالحقّ في الإيمان.

 

في مواقع الاختلاف:

أمّا عندما يحدث الخلاف بيننا وبين فريق آخر، وعندما تندلع مشكلة فحينئذ يُسئل المختصّون: ما هو الحكم الذي يمكن أن يصدر في هذه القضية؟ فإذا رأوا أنّ الحكم الذي سيصدر ينسجم مع مصالحهم جاؤوا إلى ساحة حكم الله ورسوله وأعلنوا حماسهم له وتقبلهم له، أما إذا رأوا أنّ الحكم لم يكن لصالحهم، بل لصالح خصمهم رفضوا ذلك (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) (النور/ 49)، أفي قلوبهم مرض؟ هل كانوا منافقين عندما أعلنوا إيمانهم، فكانوا يعلنون الإيمان ويبطنون الكفر، والنفاق – كما هو معلوم – مرض وهو أن تعيش حياتك في شخصية مزدوجة، فشخصيتك المعلنة تمثل خطاً وشخصيتك الخفيّة تمثل خطاً آخر (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) (البقرة/ 10)، إنّه المرض العقلي والمرض النفسي والمرض الشعوري والمرض العملي (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا)، شكّوا بالحق بعدما كانوا يؤمنون به (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) (النور/ 50)، يخافون أن يظلمهم الله ولم يسألوا أنفسهم لماذا يظلم الله الناس، إنّ الذي يظلم كما جاء في دعاء "زين العابدين" (ع) هو الضعيف، مَن يأكل مالك بغير حقّ، ومَن يضربك بغير حقّ، ومَن يتهمك بغير حقّ، ومَن يسبّك بغير حقّ، فهو لا ينطلق من موقع قوة، وإنما ينطلق من موقع ضعف، ذلك لأنّ ضعف موقفه وضعف حجّته التي يدافع عنها تفرض عليه أن يهرب إلى الإمام فيظلمك وينتهك حرمتك "وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً" (أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (النور/ 50)، الذين ظلموا أنفسهم، وظلموا الحقيقة، وظلموا الإنسان والحياة كلّها، وهذا تعبير قرآني يعبّر به عن المنحرفين بأنّهم الظالمون، لأنّ الإنسان المنحرف لا يظلم نفسه عندما ينحرف بها عن الخط المستقيم، ولكنه يظلم الناس عندما يحرّك الخط المنحرف ليحكم حياتهم، ويظلم الحياة عندما يبتعد بها عن خط الاستقامة التي يبني لها قوتها وثباتها وانطلاقها وانفتاحها. بل أولئك هم الظالمون الذين ظلموا ربّهم بالمعصية، لأنّ من حقّ الله أن يطاع ولا يعصى، وظلموا أنفسهم فاستحقّوا غضب الله وسخطه، وظلموا الإنسان من حولهم عندما حرّكوا في حياته الانحراف، وظلموا الحياة عندما أبعدوها عن خط الاستقامة. ثمّ يقول الله سبحانه وتعالى بأنّ هذا النموذج هو نموذج الناس الظالمين لأنفسهم وللناس.

 

الانطلاق في خطٍّ واحد:

غير أنّ هناك المؤمن الحقّ الذي ينطلق من قاعدة واحدة ويسير في خط واحد، المؤمن الذي لا يعيش الازدواجية بين ما هو فكره وبين ما هو عمله، لا يعيش الازدواجية والاهتزاز بين ما يعلنه للناس وما يعيشه في نفسه. إنّ المؤمن واحدٌ ينطلق في خط واحد ويؤمن بإله واحد ويتحرّك في الحياة من خلال وحدة الفكر والقلب والحركة والاتجاه. (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النّور/ 51)، لأنّهم آمنوا بالله وانطلق إيمانهم ليحكم كلّ وجدانهم وليتحرّك في كلّ حياتهم. وعندما آمنوا بالرسول عرفوا أنّه هو الذي يمثل وحي الله بكلّ صدق وبكلّ عصمة. ولذلك عندما آمنوا بالقاعدة تحرّكوا بشكل عفوي وطبيعي لا يحتاج إلى المزيد من الفكر، تحرّكوا في الخط المستقيم (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) وأولئك هم الذين يطابق قولهم فعلهم، ويطابق إيمانهم العلني إيمانهم الباطني، الداخلي، الفكري، وأولئك هم المفلحون.

ثمّ يعطي الله سبحانه وتعالى الخط والقاعدة العامة للفائزين، مَن هم الفائزون عند الله؟ مَن هم الناجحون؟ (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النّور/ 52)، وقد حدّثنا الله عن الفائزين في آية أخرى (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (الحشر/ 20).

 

ثمرة البحث:

وهكذا يعطينا الله سبحانه وتعالى القاعدة ولابدّ لنا أن ننطلق في الحياة على كلّ الأصعدة سواءً كان ذلك في العقيدة أو في الخط لننطلق من فكرة واحدة، ركّز عقيدتك وركّز خطّك وركّز انتماءك أوّلاً، وقبل أن تنتمي لأي فكر اسأل عنه: على أي أساس يقوم هذا الانتماء؟ فكِّر بعلم وبوعي، وعندما تضع خطّة، فكِّر من أين تبدأ وإلى أين تنتهي، فإذا اقتنعت بما تعتقد به على أساس من وعي وفكر، واستوعبت ما تنتمي إليه على أساس دراسة عميقة، وإذا رسمت خطّك في الحياة على أساس الوضوح في البداية والنهاية، عند ذلك أغمض عينيك وسرْ لأنّ عقيدتك هي النور الذي يشرق في قلبك، وهي الزخم الذي يحرّك لك خطواتك. ولأنّ انتماءك الحقّ هو الذي يحدّد لك مواقفك ومواقعك ولأنّ الخط الذي درسته جيداً في هندسة فكرية وروحية وثقافية هو الذي يحدّد لك أين البداية وإلى أين النهاية. ولا تكن مزدوج الشخصية، ولا تكن شخصاً يعيش الشيء وضدّه، ولا تكن الإنسان الذي يعيش في نفسه حرباً بين شخصيتين، إنّ الله الواحد يريد لك أن تكون الإنسان الواحد المتنوّع الأبعاد، ويريد لك أن يكون الخط واحداً والفكر واحداً والعاطفة في خطّ فكري واحدةً والحركة في خط ذلك كلّه.

إنّ قصّتنا هي قصّة الإخلاص. قل مع عليّ (ع) في دعاء كميل "فإليك يا ربِّي نصبتُ وجهي، وإليك يا ربِّي مددتُ يدي"، وانطلق بعد ذلك (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة/ 115). فمع الله الواحد في العقيدة الواحدة، والخط الواحد ننطلق في حياتنا الفكرية، وفي علاقاتنا الاجتماعية. فإذا كنتُ أؤمن بالله وكنتَ تؤمن به، وإذا كنتُ أؤمن برسول الله وكنتَ تؤمن به، وإذا كنتُ انتمي إلى الإسلام وكنتَ تنتمي إليه، فأين الاثنينية بيننا؟ فنحن واحد في تنوّع المواقف، وواحد في الفكر والإيمان والعقيدة. وفي ضوء هذا علينا أن نكتشف وحدتنا بإيماننا وبربّنا وبنبيّنا وبالإسلام كلّه لنستطيع أن نتحرّك في وحدة تختزن التنوّع من دون أن يسيء هذا التنوّع إلى الوحدة. ►

ارسال التعليق

Top