• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

وعي الوظائف الوالدية

وعي الوظائف الوالدية

تقود الفطرة السليمة صاحبها للاهتمام بعياله ورعايتهم انطلاقاً من نداء الفطرة الإنسانية العميقة في ذاته، وتُحمِّل التعاليم الدينية الآباء مسؤولية العناية بالأبناء والاهتمام بهم ورعاية مصالحهم.

إنّ القيام بوظائف الأبوة يعود على الوالدين قبل غيرهم بالمنافع الجمة الكثيرة، وكذلك على الأسرة والمجتمع والعكس صحيح، إذإنّ التخلي عن تلك الوظائف يعود بأفدح الأضرار على الأبناء والأسرة والمجتمع. وتتلخص مسؤوليات ومهام الأبوة في أربعة محاور رئيسية:   الأوّل: توفير الحاجات المعاشية: فالأب مسؤول شرعاً عن النفقة على عياله وتلبية احتياجاتهم المختلفة من مأكل وكساء، ومأوى، وعلاج وغيره مما هو متعارف عليه في مجتمعنا. وقد جعلت الشريعة الإسلامية مهمة الكد على العيال مهمة جليلة، ورفعت من منزلة الكاد على عياله إلى مصاف المجاهدين في سبيل الله وفي بعض الروايات أعظم أجراً منهم، يقول الرسول (ص): "الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله". ويقول حفيده الإمام الكاظم (ع): "إنّ الذي يطلب من فضل يكف به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل الله". ومن الواضح أن مسؤولية الأب تجاه أسرته تدفعه بشكل تلقائي لتحمل مشاق العمل والسعي لإكتساب المال والبحث عن المزيد.   الثاني: ضبط النظام داخل الأسرة: تحتاج كلّ مؤسسة إلى مدير ومدبر، والأب المسؤول الأوّل عن فرض النظام داخل البيت، والفصل في الخلافات والنزاعات بين أفراد الأسرة وتفحص وتتبع سلوك أفراد الأسرة في داخل البيت وخارجه، ومحاسبة  كلّ فرد على أخطائه وتنفيذ العقاب الملائم بحق المقصر منهم لتنمية حس المسؤولية بين أفراد الأسرة ورفع درجة المراقبة الذاتية لديهم للابتعاد عن مواطن الخطأ والزلل، كلّ ذلك يتم بالكلمة الطيبة، والرفق بالأبناء واللطف بهم، والابتعاد عن وسائل العنف المختلفة.   الثالث: التوجيه والإرشاد: من المؤكد أن توجيه وإرشاد أفراد الأسرة من المسؤوليات الأهم على الإطلاق، ذلك أن لها أثراً طيباً على سلوك الأبناء، وهو غذاء تربوي معنوي يعزز في نفوسهم القيم الأخلاقية، ويربي فيهم الفضائل والصفات الطيبة، وينمي فيهم الوعي اللازم لإدارة حياتهم بشكل سليم. إنّ الكلمة الطيبة والإرشاد الحكيم من وظائف ومهمات الوالدين، والأب بالدرجة الأولى هو المعني بذلك كما ترشد التعاليم الدينية إلى ذلك. ففي المجال التربوي نلحظ هذه الإرشادات القيمة، يقول الرسول الأكرم (ص): "أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم". ويقول (ص): "ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن". وفي مجال العلم والمعرفة تؤكد الروايات الشريفة على أهمية إكساب الأولاد المعرفة والعلم، يقول الإمام علي (ع): "مروا أولادكم بطلب العلم". كما تشير المعارف الدينية إلى أهمية تعليم الأبناء المهارات العملية وتنميتها، يقول الرسول الأكرم (ص): "علِّموا أولادكم السباحة والرماية". وكذلك الأمن العقدي والفكري له مكانته إذ تطالب الإرشادات الدينية الآباء بتحصين الأبناء وأفراد الأسرة من الانحرافات العقيدية والفكرية والتصدي لمهمات الأمن الفكري، يقول الإمام عليّ (ع): "علموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم الله به لا تغلب عليهم المرجئة". الإرشاد الديني كما لا تغفل التعاليم الدينية دور الأب في التوجيه الديني وإرشاد الأبناء إلى القيام بوظائفهم الشرعية، يقول الرسول الأكرم (ص): "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع". وفي رواية أخرى يقول الإمام الصادق (ع): "إنا نأمر صبياننا بالصيام إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم.   الرابع: إشباع الحاجت المعنوية والعاطفية: يحتاج الأبناء إلى الرعاية النفسية والعاطفية، وذلك يتم بالقرب منهم والانفتاح عليهم والتواصل معهم، وتحسس احتياجاتهم، ومعرفة همومهم، وتطييب نفوسهم، وحفز هممهم، وشد أزرهم، ومساعدتهم على تجاوز مشكلاتهم والصعوبات التي تعترض حياتهم، وتحرّي عثراتهم، والصبر على أخطائهم، ومساندتهم بكل قوة وإصرار على تخطي إخفاقهم وفشلهم بصدر رحب ورحمة أبوية واسعة تفيض منها المشاعر والأحاسيس بلا حدود، وتستوعب كلّ تجاوز وعقوق. ومن الخطأ الفادح أن يركز الآباء جهودهم على الجانب المادي، ويهملون الجانب المعنوي والعاطفي، إذ يجب أن يحظى الجانب النفسي والعاطفي باهتمام خاص، إن كلمة حانية رقيقة تلامس مشاعر الأبناء لا تقدر بثمن، وتفوق كلّ تقدير مادي، وهذا لا يعني بالطبع أنّ الجانب المادي لا تأثير له ولا حاجة له بل إنّ المال والمشاعر الطيبة كلاهما مطلوبان ومهمان في موضعهما المناسب. وبالرغم من أن تحصيل المال والكد على العيال واجب شرعي، إلا أنّ التطرف في الركض وراء الثراء بعيداً عن القيام بالمهمات الأسرية قد يؤدي إلى ما يحمد عقباه وإلى الشقاء وتعاسة الأب قبل غيره، وتراكم الهموم على قلبه جراء ما قد يحدث من انحراف أو جنوح لأحد أفراد أسرته بسبب انشغاله وبعده عنهم، فسعادة المرء بسعادة عياله، وإن ملايين الدولارات التي يجنيها الأب لا تعدل شيئاً في مقابل سعادة واستقامة عياله والتي تدخل عليه السرور والطمأنينة عندما يرى فيهم الصلاح والإستقامة، كما أن خسارة الأولاد لا سمح الله أكثر إيلاماً للنفس من خسارة الملايين. إنّ النجاح الحقيقي في عالم المال هو ذلك النجاح الذي لا ينتج عنه خسائر أخلاقية أو معنوية في دائرة الأسرة والعيال، فكم من ناجح شغل الدنيا بثروته في الوقت الذي تشكو أسرته من جفائه وقسوته وبعده عنهم تاركاً إياهم يغرقون في مشكلاتهم المختلفة. وما ينبغي التأكيد عليه أنّ السعي نحو تنمية الثروة بالطرق المشروعة أمر محبذ وحسن لا ينكره أحد، وإنما الذي ينكره كلّ العقلاء أن ينشغل الآباء بالتوسيع في الثروة على حساب عيالهم وأسرهم. وهناك صنف آخر من الآباء يتسببون في إيذاء عيالهم نفسياً وعاطفياً ويحرمونهم من العطف والحنان عندما يكونون بعيدين عنهم نفسياً وروحياً، ويهملون أسرهم لا لشيء إلا خلوداً للراحة واستسلاماً للدعة والترهل وبعيداً عن تحمل المسؤولية الأسرية التي تتطلب جهداً مستمراً.. فقد يقضي بعض الآباء أوقاتاً  كثيرة في السهر مع الأصدقاء والأقران، ويضيعون طاقاتهم وجهدهم في القيل والقال.. على حساب واجباتهم الأسرية. أليست تلك حالة سلبية يدفع الآباء والأسرة والمجتمع من ورائها فاتورة باهظة الثمن، فماذا يُنتظر من أسرة تفقد عائلها، وماذا يرجى من أولاد لا يحصلون على أي قسط من التوجيه والمشاعر الأبوية الدافئة، وماذا يتوقع من أسرة يتيمة مع وجود الأب، فحضوره وغيابه سواء، لا يهتم ولا يراقب، ولا يرشد، ولا يفيض من مشاعر الأبوة على أفراد أسرته ولا.. ولا...، إنّه ميت الأحياء، وجوده في البيت صوري، لا يحرك ساكناً، ولا يكلف نفسه عناء أبداً.. تلك صورة الأب السلبي إن غاب عن أسرته لا أحد يسأل عنه، وإن حضر سجل غائباً!!   مسؤولية الأُم: والأُم هي الأخرى تلعب دوراً فعّالاً ومميزاً في احتضان الأبناء، فهي كتلة من الأحاسيس الرقيقة المتدفقة، وهي غالباً مستودع أسرار الأبناء ومحل ثقتهم، ومحط همومهم، وكلماتها الدافئة بلسم لجراحهم، كلّ ذلك يحدث عندما تكون الأم قريبة من أبنائها، لطيفة بهم وبقضاياهم، حريصة على أن تكون معهم، تشاركهم تطلعاتهم وأمنياتهم. بيد أن بعض الأمّهات تخلَّين عن ذلك الدور المؤثر والضروري، دور الملجأ الأوّل والحضن الدافئ، وتركن (المحمل بما حمل) وخرجن يتسكعن في الأسواق من غير حاجة للتسوق، وقضاء أوقات مبالغ فيها في جلسات الدردشة، ولا سيما وراء الفضائيات والمسلسلات التي لا تنتهي، والحضور المفرط في المناسبات الاجتماعية التي تمتد إلى ساعات الفجر!! وعندما لا تجد الأُمّهات فائضاً من الوقت للاهتمام بالعيال فسيحدث ذلك انفصالاً نفسياً وعاطفياً بين الأُم وأبنائها، ويترك ذلك آثاراً سلبية على مسيرتهم في الحياة.   المصدر: كتاب أريد حُباً

ارسال التعليق

Top