أ. د. عبدالكريم بكار
أن يفتح الإنسان عينيه على الحياة، ويبدأ بفهم محيطه العام يتفتح وعيه على بعض الحقائق المهمة، منها أنه لا يستطيع الحصول على كل شيء، فهناك دائماً حدود لما يمكن أن يستحوذ عليه، ومنها أنه يحتاج إلى الكثير الكثير من الأشياء، ومنها أيضاً أن عليه في أحيان كثيرة أن يدفع ثمناً لما يرغب في اقتنائه والاستمتاع به من أشياء وخدمات. وهذا كله يدفع به دفعاً نحو تعزيز ميوله الفطرية إلى التملك على نحو عام وإلى امتلاك (المال) الذي يعد الأداة الأساسية للحصول على المرغوبات والمشتهيات على نحو خاص. إن شدة ميل الإنسان إلى (المال) تجعله يتجاوز شعوره بالحاجة إلى المال، ويتجاوز تفكيره في كيفية إنفاقه، أي يصبح المال والحصول عليه هدفاً في حدِّ ذاته بقطع النظر عن وظائفه، تماماً مثل الذي يتناول كميات كبيرة من الطعام، فهو لا يفكر في القيمة الغذائية لها – بل كثيراً ما تكون ضارة – وإنما يأكل استجابة لشهوته للطعام ليس أكثر. يقول الله تعالى موضحاً بأبلغ بيان هذا الجزء من الطبيعة البشرية: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات/ 6-8)، ويقول – سبحانه –: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر/ 20)، وقال: (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) (فصلت/ 49)، أي لا يمل العبد من سؤال الله خيرَ الدنيا بسبب حبه للحياة وحرصه على تكديس الأشياء، وإذا أصابته ضراء قنط من رحمة ربه، واستبطأ الفَرَجَ.
وقال (ص): "لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب"، وعند أحمد عن جابر: "لو كان لابن آدم وادٍ من نخل لتمنى مثله، ثمّ تمنى مثله، حتى يتمنى أودية، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، وتماشياً مع هذه الحقيقة المتوهجة قال (ص): "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس"، أي أنّ الإنسان لن يشعر بالغنى بسبب كثرة الأشياء التي يمتلكها؛ لأنّه لا حدود لشهوته للتملك، وإنما يشعر المرء بالاستغناء بما يمتلك من عفة وقناعة وترويض للنفس على الانصراف عن متاع الدنيا. إنّ الناس يعرفون أنه ليس من اللائق أن يظهر الإنسان بمظهر الجشع الحريص على المال، ولهذا فإنّهم يغلِّفون أنشطتهم ومساعيهم للحصول على المال بأغلفة، فيها تمويه وتلطيف، وهم في الخفاء يبذلون جهودهم لنيل ما يستحقون، وما لا يستحقون، وبطرق مشروعة وغير مشروعة، كلٌ بحسب دينه وخلقه، وقد أعجبني ما ذكره أبو الوفاء ابن عقيل حين قال: "من ادعى أنه لا يحب الدنيا، فهو عندي كذاب، إلى أن يثبت صدقه، فإذا ثبت صدقه ثبت جنونه)! ولا شك بعد هذا أن هناك نوعاً من التفاوت الجبلِّي في تعلق الناس بالمال، كما أن لتهذيب النفس وشغلها ببعض الأمور العظيمة والنبيلة أثراً في تخفيف الحرص على تكديس المال.
- هل يعني هذا الملمح من ملامح الطبيعة البشرية شيئاً؟
إنّه يعني الآتي:
1- نحن مبتلون بحبنا للمال وميلنا الشديد إليه كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (الأنفال/ 28)، فهذا الحب الجارف للمال أداة امتحان، وعلينا أن نحاول النجاح في ذلك الامتحان من خلال كسب المال من حلال ومن خلال إنفاقه في مراضي الله تعالى.
2- ما دامت النفس لن تشبع من المال، فإن علينا إذاً أن نتخذ منه الموقف المتزن، فلا ننشغل بكسبه وتنميته وتوفيره عن أداء الحقوق والواجبات المترتبة علينا لربنا وأهلينا وأجسامنا... وعلينا أن نحمي أنفسنا من داء التسويف: إذا صار معي مائة ألف حججت، وإذا صار لدي مليون بنيت مسجداً... وتتوفر مع المرء هذه المبالغ، وأكثر منها ثمّ لا يحج، ولا يبني مسجداً ولا يصل رحماً، ولا يكفل يتيماً، وهذا بحق من أمارات الحرمان والخذلان!.
3- إنّ المعروض من المال سيظل أقل من المطلوب، ولهذا فإنّ التسابق على الاستحواذ على أكبر قدر من المال سيظل مصدراً مستمراً للتوتر والنزاع، وهناك دراسات تدل على أنه كلما انخفض المستوى التعليمي لدى الشخص فإن إقباله على الاستهلاك يصبح أشد، وربما كان ذلك من باب التعويض عن الجدب الروحي والفكري الذي يعاني منه، وهذا يعني أنّ الإعراض عن التثقف والقراءة والذي يشكل سمة بارزة لمعظم المجتمعات العربية والإسلامية، سيزيد في التوتر، من خلال ازدياد الطلب على المال، وسيكون ذلك من ضرائب التخلف!
4- لدى الناس طموح كبير لتحقيق الذات وإثباتها والظهور بمظهر الشخص القائد أو الزعيم أو المتميز أو فاعل الخير، وهذا يمكن تحقيقه عن طريق الأنشطة الدعوية والأدبية والتطوعية والاجتماعية، فإذا كانت هذه الأنشطة ضئيلة في مجتمع من المجتمعات أو عليها نوع من الحظر والتضييق لأي سبب من الأسباب، فإنّ الناس سوف يلجؤون إلى المال بوصفه وسيلة لتحقيق الذات، وهنا تنتشر المظهرية، ويَخْبَر الناس ألواناً مقيتة من المباهاة والإسراف والتبذير والسفه في إنفاق المال، ولهذا فلابدّ من العمل الحثيث على إغناء الحياة العامة بالمؤسسات والمشروعات والأنشطة الأدبية والاجتماعية... وإلا فقدنا توازننا في إنفاق المال، والذي سيؤدي في النهاية إلى خلل في طريقة اكتسابه.
ارسال التعليق