• ٢٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الخشوع والافتقار من مظاهر الدُّعاء

عمار كاظم

الخشوع والافتقار من مظاهر الدُّعاء

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الدُّعاء مُخُّ العبادة ولا يُهلَكُ مع الدُّعاء أحد». يبيّن هذا الحديث النبويّ المبارك عن جوهر العبادة وحقيقتها التي تتجلّى في إقبال العبد المحتاج على المعبود الغني: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15). وهذا الإقبال هو التعبير الحيّ عن الصلة الموضوعية بين الخالق والمخلوق، وعن شعور الإنسان بحاجته الدائمة إلى ربّه تعالى في جميع أُموره، واعترافه الخاضع بالعبودية له تعالى، والتي تتجسّد في الشعور بالارتباط العميق باللهِ سبحانه، فجوهر العبادة إذن هو تحقيق الارتباط والعلاقة بين الخالق والمخلوق، والدُّعاء هو أوسع أبواب ذلك الارتباط وتلك العلاقة، فهو إذن مخّ العبادة وحقيقتها وأجلى صورها. وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «أفضل العبادة الدُّعاء وإذا أَذِنَ الله لعبد في الدُّعاء فتحَ له أبواب الرحمة إنّه لن يهلك مع الدُّعاء أحد».

إذاً، الدُّعاء في نفسه عبادة، فهما يشتركان في حقيقة واحدة هي إظهار الخشوع والافتقار إلى الله تعالى. وهو غاية الخلق وعلّته، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، وقال جلّ جلاله: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) (الفرقان/ 77).. فالدُّعاء والعبادة يعكسان الفقر المتأصل في كيان الإنسان إلى خالقه تعالى مع إحساسه العميق بالحاجة إليه والرغبة فيما عنده. وطالما أنّ هدف العبادة تحقيق الرابطة الحقيقية التي ينبغي أن تكون بين العبد وربّه، على أساس اعتراف العبد باحتياجه المطلق إلى الغني المطلق وإقراره بفقره وفاقته وعجزه ولا شيئيته أمام المالك الذي لا ينفد ملكه وسلطانه، فإنّ الدُّعاء هو من أبرز العبادات التي تحقّق هذا الهدف لأنّ الدُّعاء مظهرُ فقر الإنسان إلى الله تعالى واحتياجه إليه، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «عليكم بالدُّعاء فإنّكم لا تتقرّبون بمثله».

كلّ إنسان مؤمن يحتاج إلى الشعور بهذه العلاقة من الارتباط بالله تعالى، وانطلاقاً من هذه الحقيقة يكون الدُّعاء هدفاً لا وسيلة، وبهذه النظرة يكون الدُّعاء هو العلاقة نفسها، وهو نفس الإحساس الذي نحتاجه. إنّ لسان حال المؤمن هو الدُّعاء دائماً، ذلك أنّ كيانه يتحوّل إلى سائلٍ يقف بباب الله ويناجيه ويدعوه في كلّ وقت. إنّ جميع المخلوقات في الدُّنيا مرتبطة بالذات الربوبية المقدّسة، والإنسان كذلك باعتباره أشرف المخلوقات، فإنّ وجوده مرتبط بالذات الإلهيّة المقدّسة بالكيفية الأشرف المتناسبة مع الرتبة التي حباه بها الله تعالى. وهذا الإحساس الذي يمثّله الدُّعاء يعطي للإنسان حالة معنوية من العروج والسلوك والقرب من الذات المقدّسة، وهذه أعظم فوائد الدُّعاء.

من الصعب تحديد فوائد الدُّعاء وحصرها في نقاطٍ معينة، ويكفي أن يكون الدُّعاء اتصالاً مفتوحاً بين العبد والمعبود الأوحد الأعظم بما يحمل هذا الاتصال في طيّاته من راحة نفسية وطمأنينة واستمداد للقوّة والعزيمة في حياة العبد على كلّ صعيد، فبالدُّعاء إحياء لذكر الله وإزالة الغفلة التي هي أساس الانحراف والفساد اللذين يعتريان حياة الإنسان، وتعويد الإنسان على الذِّكر وترسيخه في قلبه. فإنّ أكبر الخسائر التي تحصل نتيجة ترك الدُّعاء هو زوال ذكر الله من القلب، فالغفلة عن الله تعالى هي من أكبر خسائر البشر. قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28). ومن خصوصيات الدُّعاء ترسيخ الإيمان واستقراره في قلب الإنسان، فمن خلال الدُّعاء واستمراره، والتوجّه لله تعالى يتقلّص خطر زوال الإيمان. قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال/ 2). إنّ الحديث مع الله تعالى والقرب منه يعمّق في الإنسان روح الإخلاص، الذي يعني العمل لله بنيّة خالصة، وعندما تتجذّر هذه الحالة لدى الإنسان فإنّ جميع أعماله يمكن أن تُنوى لله تعالى. الدُّعاء وظيفته أن يضع عن كاهل الإنسان هذه الأغلال ويهبه روح الإخلاص التي تحرّره من كلّ قيدٍ بما فيها أثقلها وهو قيد الأنا والأنانية: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (غافر/ 65). نعم، إنّ الدُّعاء هي تلك العبادة التي تحيّ العشق القلبي لله تعالى، وهذا العشق هو مظهر لجميع كمالات الباريّ تعالى: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحجّ/ 35).. فالدُّعاء والأنس والنجوى مع الله تعالى يخلق هذه المحبّة في القلوب.

ارسال التعليق

Top