• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

آثار الصبر ونتائجه

آثار الصبر ونتائجه

◄الصبر هو: «كفُّ النفس عن الجزع عند حلول مكروه»، وقيل إنّه: «امتناع النفس عن الشكوى على الجزع المستور». والمراد من الشكوى هنا الشكوى إلى المخلوق، وأمّا الشكوى عند الخالق المتعالي وإظهار الجزع والفزع أمام قدسيّته فلا تتنافى مع الصبر. كما اشتكى النبيّ أيوب (ع) عند الحقّ سبحانه قائلاً: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ (ص/ 41) رغم أنّ الله تعالى أثنى عليه بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص/ 44). وقال النبيّ يعقوب (ع): ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾ (يوسف/ 86) مع أنّه كان مع الصابرين. بل إنّ ترك الشكوى إلى الحقّ المتعالي إظهارٌ للجلادة وللدعوى.

للصبر نتائج كثيرةٌ أهمّها:

1- ترويض النفس وتربيتها:

فالإنسان إذا صبر حيناً من الوقت على المفاجآت المزعجة ونوائب الدهر، وعلى مشاقّ العبادات والمناسك، وعلى مرارة ترك الملذّات النفسية امتثالاً لأوامر وليّ النعم، وتحمّل الصعاب مهما كانت شديدة ومؤلمة، اعتادت النفس شيئاً فشيئاً وتروّضت، وتخلّت عن التمرّد، وتذلّلت صعوبة تحمّل المشاق عليها، وحصلت للنفس ملكةٌ راسخة نورانية، بها يتجاوز الإنسان مقام الصبر ليبلغ المقامات الأُخرى الشامخة. بل إنّ الصبر على المعصية يبعث على تقوى النفس، والصبر على الطاعة يسبّب الاستيناس بالحقّ عزّوجلّ، والصبر على البلايا يوجب الرِّضا بالقضاء الإلهيّ. وكلّ ذلك من المقامات الشامخة لأهل الإيمان، بل لأهل العرفان.

يقول المحقّق الخبير نصيرالدِّين الطوسي: «الصبر حبس النفس عن الجزع عند المكروه. وهو يمنع الباطن عن الاضطراب، واللسان عن الشكاية، والأعضاء عن الحركات غير المعتادة». وعلى العكس، فإنّ الإنسان غير الصابر، قلبه مضطرب، وباطنه موحش، ونفسه قلقة ومهزوزة. وهذا بنفسه بليّةٌ فوق جميع البلايا، ومصيبةٌ من أعظم المصائب التي تحلّ بالإنسان وتسلب منه الراحة والقرار. وأمّا بالصبر فتخفّ الرزيّة، ويتغلّب القلب على النوائب والبلايا، وتنتصر إرادة الإنسان على المصائب. ولذا نجد الإنسان غير الصابر يشكو عند مَن هو أهلٌ للشكاية، ومَن ليس بأهلٍ للشكاية، وهذا الأمر بالإضافة إلى أنّه يؤدِّي إلى الفضيحة لدى الناس، والاشتهار بالضعف بينهم، وعدم الجلادة، فإنّه سيسقطه من أعيُن الناس ويحطّ من كرامته لدى ملائكة الله، وأمام جلال القدس الربوبيّ.

2- تثبيت الإيمان في النفس:

ورد في الأحاديث الشريفة عن أهل بيت العصمة ثناءٌ بليغٌ على الصبر. فعن الإمام الصادق (ع) قال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وكذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان».

وعن الإمام السجاد عليّ بن الحسين (ع) قال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبرَ له». إنّ الصبر مفتاح أبواب السعادات، وباعثٌ للنجاة من المهالك، بل إنّ الصبر يهوّن المصائب، ويخفّف الصعاب، ويقوّي العزم والإرادة، ويبعث على استقلالية مملكة الروح. وأمّا الفزع والجزع فبالإضافة إلى أنّهما عيبٌ، وكاشفان عن الضعف في النفس، فإنّهما يجعلان الإنسان مضطرباً، والإرادة ضعيفةً والعقل موهوناً.

إنّ العبد الذي لا يتحمّل مصيبةً واحدةً نازلةً عليه من الحقّ المتعالي والحبيب المطلق، والذي إذا واجه بليّةً واحدةً رفع صوته بالشكوى من وليّ نعمه أمام المخلوق رغم نزول البركات عليه وتلقّيه آلاف آلاف آلاف النِّعَم، مثل هذا العبد أيّ إيمانٍ له؟ وأيّ تسليمٍ له أمام المقام القدسي للحقّ؟ فيصحّ أن يُقال إذاً: إنّ مَن لا صبرَ له لا إيمان له. لو كنت مؤمناً بالحضرة الربوبية، ورأيت أنّ مجاري الأُمور بيد قدرته الكاملة، وأنّه لا يكون لأحدٍ يدٌ في الحوادث والأُمور لما اشتكيت من حوادث الأيّام والبليّات أمام غير الحقّ تعالى، بل لاستقبلتها بكلّ حفاوةٍ وتكريم، وشكرت نِعَم الحقّ سبحانه. فكلّ الاضطرابات النفسية والشكاوى اللسانية والحركات غير اللائقة وغير المعتادة للأعضاء، تشهد بأنّنا لسنا من ذوي الإيمان.

فمادامت النِّعمة موفورة، شكرنا ربّنا شُكراً ظاهرياً لا لبّ له، بل يكون لأجل طمع الزيادة، وحينما تواجهنا مصيبةٌ واحدةٌ أو يحلّ بنا ألمٌ ومرضٌ، اشتكينا من الحقّ تعالى لدى الناس وغمزنا فيه، واعترضنا عليه، وأبدينا الشكوى أمام كلّ مَن هو أهل، ومَن ليس بأهل. وتتحوّل الشكاوى والجزع والفزع الحاصل في النفس، إلى بذور البغض تجاه الحقّ والقضاء الإلهيّ، ثمّ ينمو شيئاً فشيئاً، ويشتدّ حتى يتحوّل إلى مَلكة، بل لا سمح الله، تتحوّل الصورة الداخلية للذات إلى صورة البغض لقضاء الحقّ، والعداء للذات المقدّسة.

فالجزع والفزع لا يجديان نفعاً، بل لهما أضرارٌ مخيفة، ومهالك تنسف الإيمان. وأمّا الصبر والجلادة فلهما الثواب الجزيل، والأجر الجميل، والصورة البهيّة البرزخية الشريفة، كما ورد في الحديث الشريف: «الصبر يعقب خيراً، فاصبروا ووطّنوا أنفُسكم على الصبر تُؤجروا».

فعاقبة الصبر هي الخير في هذه الدُّنيا، كما يستفاد من التمثيل بالنبيّ يوسف (ع)، ويبعث على الأجر والثواب في يوم الآخرة. وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) قال: «مَن اُبتلي من المؤمنين ببلاءٍ فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد». ووردت أحاديث كثيرة في هذا المضمار. وأمّا أنّ للصبر صورةً بهيةً برزخية، فعن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: «إذا دخل المؤمن في قبره، كانت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبرّ مطلّ عليه، ويتنحّى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته، قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه».►

 

المصدر: كتاب أخلاقنا الإسلامية/ سلسلة دروس في المفاهيم الأخلاقية

ارسال التعليق

Top