• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أسرار الله تعالى في ليلة القدر

أسرار الله تعالى في ليلة القدر

◄(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (سورة الفجر).

إنّ التدقيق في الآيات التي تحدثت عن نزول القرآن، يوحي بأنّها من ليالي شهر رمضان، وذلك كما في قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة/ 185)، وقوله تعالى: (إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدخان/ 3ـ5)، فإنّ الظاهر منها ـ بالمقارنة مع سورة القدر ـ أنّ المراد بها ليلة القدر.

وما هو المراد بالقدر؛ فهل هو بمعنى الشرف والرفعة في ما يمثّله ذلك من علوّ الدرجة والمنزلة، لما لها من المنزلة الرفيعة عند الله، أم أنّ المراد التقدير، فهي الليلة التي يقدّر الله فيها كلّ أحداث السنة، من حياةٍ وموتٍ، وبؤسٍ وشقاءٍ، وحربٍ وسلمٍ وغير ذلك، ولعلّ هذا هو الأقرب، بلحاظ قوله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدخان/ 4ـ5)، وقوله في آخر السورة: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ).

(وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)، فليس شأنها ممّا يُمكن للإنسان أن يدركه بنفسه، لأنّ ذلك سرّ الله في الزمان، كما هو سرّه في المكان وفي الأشخاص، فهو الخالق للوجود كلّه، بكلّ أنواعه، وهو الذي يمنح هذا بعضاً من الخصوصية التي تجعل منه "شيئاً مذكوراً"، ويمنح ذاك بعضاً من الأسرار التي تجعله شيئاً عظيماً، لأنّ الّذي يخلق الوجود هو القادر على أن يمنحه قيمته. وهكذا جعل الله لهذه الليلة قيمتها الروحية: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، وقد لا يكون هذا الرقم تحديداً في الكمّ، فربّما كان تقريباً للنوع في الدرجة التي يتضاءل أمامها كلّ زمنٍ من هذه الأزمنة التي لا تحمل إلّا الذرات الزمنية المجرّدة.

ليلة القدر مباركةٌ في ذاتها. وربّما كان نزول القرآن فيها على أساس أنّه من الأمر الإلهيّ الذي يتنزل به الملائكة. وأيُّ أمرٍ أعظم من القرآن الذي هو النُّور والهدى للبشرية من خلال اللطف الإلهيّ الذي يصل الأرض بالسماء، ويدفع بالحياة إلى السير على الخطّة الإلهيّة الحكيمة في الفكر والمنهج والشريعة والمفهوم الكامل الشامل للحياة، الذي يفتح للإنسان أكثر من نافذةٍ على الروح القادم من عند الله، ليزداد ـ بذلك ـ ارتفاعاً في السماوات الروحية العليا في رحاب الله؟!

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ)، وهذا هو سرّ الليلة الذي تتنزّل به الملائكة، الذين يوكل الله إليهم المهمّات المتعلقة بالكون الأرضي المتصل بالإنسان من كلّ أمرٍ يهمّه أو يتعلّق بشؤونه، في رزقه، وحركته وعمره، ونحو ذلك. كما يتنزّل به الروح الذي قد يكون المراد به جبريل (ع)، الذي امتاز عن الملائكة ـ حسب الأحاديث الكثيرة ـ بأنّه الرسول الذي يحمل الوحي للأنبياء ليبلّغوه للناس، وقد يكون المراد به الخلق العظيم الذي يتميّز بقدرةٍ خاصّةٍ غامضةٍ، أو بطبيعة مختلفةٍ عن طبيعة الملائكة.

جاءت التعاليم النبويّة المستمدّة من الوحي الإلهيّ الذي أوحى به إلى نبيّه، أو ألهمه إيّاه، بضرورة استعداده فيها للصلاة والابتهال والدُّعاء والانقطاع إلى الله، والتقرّب إليه بالكلمة الخاشعة، والدمعة الخائفة، والخفقة الحائرة، والشهقة المبتهلة، ليحصل على رضاه، فيكون ذلك أساساً للتقدير الإلهيّ الذي يمثِّل عناية الله به ورعايته له، وانفتاحه عليه بربوبيّته الحانية الرحيمة. وذلك هو السرّ الذي يرتبط به الإنسان بليلة القدر، في مواقع إنسانيّته، ليلتقي ـ فيها ـ بالسرّ الإلهيّ في رحاب ربوبيّته، لينطلق الإنسان إلى ربّه قائماً وقاعداً، وراكعاً وساجداً، في إخلاصه، وفي ابتهاله وفي خشوعه، لتكون هذه الليلة موعداً إلهيّاً يتميّز عن أيّ موعدٍ آخر. فبإمكان الإنسان أن يلتقي بالله في كلّ وقت، ولكنّ لقاءه به في ليلة القدر شيءٌ آخر، فهي (خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، فالرحمة فيها تتضاعف، والعمل فيها يكبر، والخير فيها يكثر، وعطايا الله تتزايد، وهي ـ بعد ذلك ـ ليلة السلام التي يعيش فيها الإنسان روحية السلام مع نفسه ومع الناس، لأنّها تحوّلت إلى معنى السلام المنفتح بكلّ معانيه على الله، ليكون برداً وسلاماً على قلب الإنسان وروحه، ليعود طفل الحياة الباحث عن الله.

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، فليس فيها أيّ معنًى يوحي بالشرّ والبغض والأذى ممّا يرهق مشاعر السلام للإنسان؛ إنّه سلام الروح الذي يمتدّ في روحانية هذه الليلة، في كلّ دقائقها وساعاتها في رحمة الله ولطفه. (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، ليبدأ يومٌ جديدٌ يتحوّل فيه الإنسان ـ في ما أفاض الله عليه من روحه وريحانه ـ إلى إنسانٍ جديد، هو إنسان الخير والمحبّة والسلام، في آفاق الله الرحمن الرحيم الذي هو السلام المؤمن العزيز الجبّار المتكبّر.

وتلك هي ليلة القدر التي قد يكون لها موعدٌ معيّنٌ معلومٌ، لأنّ الله ربّما أخفاها في الليالي، لينطلق العباد في أيّامه، ليصلوا إليها، ليتعبّدوا لله في أكثر من ليلةٍ، لاحتمال أنّها ليلة القدر، حتّى يتعوّدوا أن تكون لياليهم في معنى ليلة القدر، في العبادة والخضوع والقرب من الله. وذلك ما يريده الله لعباده، أن يتقرّبوا إليه، ويلتقوا به، ليصلوا إليه بأرواحهم وقلوبهم، لأنّهم لا يملكون الوصول إليه بأجسادهم.►

ارسال التعليق

Top