نطلق مصطلح تأثير الفراشة (Butterfly Effect) على المؤثر الخفي متناهي الصغر الذي يؤدي إلى سلسلة من الأحداث الكبيرة المؤسفة. ويحدث أن يشكو الواحد منا من خمول مفاجئ وتعب مستمر يصاحبه إمساك وبرودة في الأطراف. يسأله الطبيب عن الإجهاد في العمل أو متاعب البيت، وبعد الفي يطلب تحليلات وظائف الكبد والكلية والسكري... النتائج سليمة ونظام الأكل مثالي، فما السبب؟ تزداد الحيرة وغالباً لا يخطر على البال أنّها تلك الفراشة الراقدة في عنق كلّ واحد منا، طفل أو شيخ، رجل أو امرأة... الغدة الدرقية!

يمر وقت لا بأس به من تحسين المأكول وضبط الضغط وتناول أقراص الفيتامينات والمكملات الغذائية، قبل أن يطلب الطبيب الحصيف إجراء تحاليل الغدة الدرقية، وفي حالة اكتشف قلة النشاط بها يكون من اليسير وصف العلاج بتعويض الناقص من الهرمون الدرقي (Thyroid Hormone) ويلاحظ بعد تناوله التحسن التدريجي السريع؛ فهو قوي المفعول وبلا آثار جانبية إذا أُخذت بالجرعة اللازمة فقط. قلة نشاط الغدة الدرقية تصيب المرء في أي عمر، لكن الاحتمالات تزيد قليلاً عند التقدم في العمر، وهذا المشهد تراه كثيراً: امرأة كبيرة السن تثور لأقل الأسباب، تشعر بحرارة في الجسم رغم اعتدال الطقس، تشعر بخفقان في القلب فتتوتر ومن ثم تزيد ضربات القلب، وثمة شكوى مهمة يجب أن يحترمها الطبيب ولا يعتبرها هيستريا نسائية كالعادة، وهي اعترافها بأنّها قد ازدادت شراهة في تناول الطعام، وبالرغم من ذلك يقل وزنها! المرأة أكثر عرضة للإصابة بمشكلات الغدة الدرقية، فإن حدث ذلك قبل سن الإياس (اليأس) Menopause تضاف إلى الأعراض غزارة تدفق دم الدورة الشهرية أو اضطراب مواعيدها أو حدوث مشكلات تأخُّر الإنجاب، وبعد الخمسين تكون أكثر الأعراض حدوثاً ارتفاع ضغط الدم واضطرابات القلب، وهذه الأعراض تختفي بعد أسبوعين على الأكثر من تناول العلاج. ويجب على طبيب المدرسة متابعة الطفل الذي يعاني صعوبة في استيعابه الدراسي مصاحبة لمعدل نمو أقل أو أعلى من الطبيعي، وعادة ما يكون أحد الوالدين قد أصيب بالمرض الذي يعود في الغالب إلى مشكلة مناعة ذاتية Autoimmunity، فيحدث خلل في نسيج الغدة الدرقية يؤدي إلى تفاعله ضد نفسه.

جهاز مخابرات أمام حنجرتك؟

إذا أمسكت عنقك وابتلعت ريقك، فإنّ الجزء الناعم الذي يتحرك تحت أناملك يتحكم بهرموناته في وظائف مختلفة في جسمك عندما تنتقل في الدورة الدموية إلى بقية الأعضاء لتسليم الأثر الهرموني للمستقبلات المنتظرة. ومن أهم هذه العمليات الحيوية، الأيض، أو ما نعرفه باسم التمثيل الغذائي، ولا يعني فقط استخراج الطاقة اللازمة من الطعام، لكنه أيضاً يضم تحويل المواد العلاجية أو السامة إلى مواد مفيدة أو نواتج إخراج، على الترتيب. وتعمل الغدة الدرقية على مراقبة هذه العملية، فترفع من استهلاك الطاقة عند بذل مجهود عضلي زائد أو تقلل منه عند النوم أو الراحة ومواكبة المستجدات إذا انتقلت إلى مناخ مختلف أو ظروف حياتية جديدة في بلد آخر بنظام حركة وطعام مغاير، فتعمل الغدة الدرقية على ضبط معدلات الأيض الأساسية قصيرة المدى تبعاً لكمية الطعام التي تتناولها. وتزيد أهمية الدور الذي تلعبه هنا في حالة الإصابة بالقَمَه العصابي Anorexia Nervosa، وهي حالة فقدان الشهية العصبية التي تقل معها كميات الطعام التي تتناولها، فلا تعي أنّها أقل مما تحتاج إليه، في هذه الحالة تعمل الغدة الدرقية على تحقيق أقصى استفادة ممكنة من هذا القدر من الطعام بإبطاء عملية التمثيل الغذائي لتناسب الكمية القليلة التي تدخل جوفك. وعلى العكس، تزيد من معدل الأيض عند البدناء في حالة تناولهم كميات كبيرة من الطعام تحتاج إلى نشاط حرق أعلى.

تلعب الغدة الدرقية دوراً أساسياً في حيوية الجسم وطاقته العضلية والذهنية، ويمتد هذا التأثير إلى لون الجلد وقوة الشعر ولمعانه، وتُنظِّم معدل التنفس وضربات القلب والكفاءة العضلية للنشاط البدني، ويغيب عن الذهن أنّ عديداً من مشكلات التهاب المفاصل الرثياني Rheumatoid Arthritis يتعلّق باضطرابات الغدة الدرقية، كذلك تعمل على ضبط التوازن والحد من ارتفاع نسبة الكوليسترول، إضافة إلى الدور الذي بدأت القيام به حتى قبل مولدك، فهي تفرز الهرمونات للجنين بدءاً من الشهر الثالث من الحمل، بالإضافة إلى قدر لا بأس به من هرمونات الغدة الدرقية الخاصة بالأُم، وفي اليوم الثاني لميلاد الطفل، يصل هرمون الغدة الدرقية المتدفق إلى الدم إلى أعلى معدلاته للعون على إتمام عمليات النمو، خاصة نمو العظام والأسنان والمخ والجهاز العصبي، والأهم؛ تأثيرها على النمو العقلي والحالة النفسية، لهذا نجري تحليل الغدة الدرقية للأطفال الرضع بعد ولادتهم مباشرة، ويستمر دورها مع المراهق في فترة البلوغ، وأي خلل بها يؤدي إلى غياب أو تأخر الخصائص الجنسية الثانوية، كخشونة الصوت أو نمو الثديين. وعند النساء تمارس الغدة الدرقية دوراً ملكياً، فهي تضبط عمل الهرمونات الخاصة بالدور الجليل للمرأة، بداية من عملية الإخصاب وتنظم الدورة الشهرية، وشهور الحمل، ومد الجنين بالهرمون الدرقي، ثم تكوين اللبن وتعويض ملابسات التغير الهرموني عند سن اليأس، فتقل احتمالات حدوث اكتئاب وتقلُّب المزاج وزيادة الوزن والافتقار إلى الحيوية والنشاط.

كلمة السر: اليود:

اليود هو المركب الرئيس لهرمونات الغدة الدرقية، فهي تقتنص كلّ ما تحتاجه من اليود السائر في الدم وتعمل عليه بعض التحويلات الكيميائية السريعة وتخزنه بأعجوبة داخل الغدة لإفرازه في الوقت المناسب. هذا يعني أنّ قلة اليود في الطعام (أقل من واحد ملليجرام في الأسبوع) تعني ضعف نشاط الغدة الدرقية وبالتالي قلة كفاءة الهرمون الذي تفرزه، ومن رحمة الله أنّ اليود موجود في كلّ مكان تقريباً، حتى في اللبن والماء. لكنه ينقص بشكل حاد في الأماكن الصحراوية وسفوح الجبل، وتعمل المؤسسات الدولية على إقحام اليود في ملح الطعام (تأكد من وجوده بعصر القليل من الليمون فيزرق لون الملح)، ولا تحاول الارتجال في هذه المسألة، فتناول جرعة زائدة من اليود من دون علم الطبيب لن يجعلك أكثر نشاطاً وسعادة وذكاء، هذه الزيادة قد تكون سامة! ذرات اليود هذه هي التي تمنح هرمونات الغدة الدرقية أسماءها المعروفة في التحليلات: T4 أو الدرقين، تحتوي كلّ وحدة كيميائية منه على أربع ذرات من اليود، T3 أو ثالث يود الثيرونين يشمل ثلاث ذرات فقط. الأوّل أكبر في الكمية والثاني أقوى في النشاط، والزائد من اليود تخزنه الغدة الدرقية مرتبطاً بجزيئات كبيرة الحجم من البروتين مع احتياطي الدرقين يكفي لمدة ثلاثة شهور مقدماً. وبينما تنظم هرمونات الغدة الدرقية سائر الهرمونات، تتلقى الغدة الدرقية الأوامر من الغدة النخامية عن طريق هرمون خاص اسمه الهرمون المحفز للغدة الدرقية، وبدورها تتلقى النخامية أوامرها من الوطاء الواقع تحت المنطقة البصرية في المخ والجهاز الحوفي المحيط به، وهو جهاز مخابرات مركزي يتحكم في كلّ شيء تقريباً ويعد بمنزلة مركز اتصالات عملاق في قلب الدماغ يتلقى ويرتب وينظم جميع المشاعر والانفعالات والمعلومات وإشارات الجسم بكفاءة تفوق أعقد الدوائر الإلكترونية.

أمراض الغدة الدرقية:

تضخم الغدة الدرقية: الدراق أو الجواتر Goiter ويصيب النساء أكثر من الرجال، وكان يُعتقد قديماً أنّه من علامات الحسن، سوف تلاحظ لوحات الإغريق وتمثال "كليوباترا" به رقبة متورمة من الأمام، مايكل أنجلو نفسه كان مصاباً به وظهر هذا في البورتريهات الشخصية التي رسمها لنفسه وكتب مرة في رسالة لصديق: "ما أصابني هذا التضخم إلّا بسبب ألوان هذا العرين!".

لا نعرف المغزى العلمي لكلامه، لكن الدراق أنواع عدة، منها الفسيولوجي وهو التورم الطبيعي وهو امتلاء عنق الفتاة المراهقة بفعل زيادة الهرمونات الجنسية (الأستروجين خاصة) التي تنبه الغدة الدرقية، على عكس الأندروجين عند الذكور الذي يقلل من نشاطها. أو يحدث التضخم مع الحمل، ولا يحتاج الأمر إلى علاج إلّا إذا حدثت مضاعفات، مثل تمدد الورم خلف عظام القفص أو كان شكلها منفراً، ويظهر أثر ذلك على أشعة X أو الأشعة المقطعية أو بلع الباريوم، الذي يكشف أثر ضغط الغدة المتضخمة على المريء. والعلاج يتم بتناول العقاقير المناسبة أو التدخل الجراحي في حالة ظهور عُقيدة واحدة مهما كان حجمها. ويحدث تضخم الغدة الدرقية المتوطن في الأماكن التي تبعد عن البحر وهو مصدر اليود الرئيس.

والتضخم ذاتي المناعة، عندها تفرز الغدة الدرقية أجساماً مضادة لإيقاف نشاط بروتينات الغدة نفسها، وعندما تتحامل على نفسها للاستمرار في العمل رغم وجود الأجسام المضادة، تنشأ أمراض شديدة الخطورة مثل الدراق الجحوظي Graves Disease أو داء هاشيموتو، وهو التهاب الغدة الدرقية المزمن. وتورم الغدة السرطاني يوجب إزالتها جراحياً ومعها جميع الأجزاء اللازم التخلص منها، ثم تناول اليود المشع وأقراص الدرقين لتعويض نشاط الغدة المفقود. أما قصور الدرقية فهو قلة نشاطها، ويظهر من خلال انتفاخ الوجه وسُمك البشرة الزائد، خاصة الجفنين، وفقدان الثلث الخارجي من شعر الحاجب، والشعور بالنكد دائماً وضعف الشعر وسقوطه، وفقد صبغة الجلد في بعض الأجزاء (البهق – أو البهاق Vitiligo)، كما تنخفض ضربات القلب ويقل ضغط الدم ويضيق النفس ويزيد الوزن بالرغم من انخفاض الشهية وتراكم غازات البطن وطنين الأذن الواحدة والشعور بالوخم والنعاس وضعف العضلات وانقباض بطن الساق وتيبس المفاصل، وضعف التركيز وتشتت الذهن والسلبية حيال اتخاذ أي قرار وتضخيم الأعباء الروتينية والشعور بعدم الرضا عن نفسك وعن العالم، فتتجنب الاختلاط بالناس من ثم الاضطرابات النفسية الحادة والتمهيد لمرض ألزهايمر.

الغدة الدرقية مفرطة النشاط، أي زيادة إفرازاتها في ما يعرف بالتسمم الدرقي Thyrotoxicosis، وتظهر أعراضها بشكل أوضح وأقوى من خاملة النشاط، فالمريض يكون أكثر عصبية وانفعالاً، تزحم رأسه الأفكار وتتسارع ضربات القلب ويصاب بفتور كامل ولا مبالاة، ورعشة اليدين وارتفاع ضغط الدم وفقدان الوزن بصورة ملحوظة لأنّ الأمعاء تعمل بسرعة أكبر من المعتاد، يزيد تعرّق الجلد فيزداد نعومة ودفئاً وتختفي التجاعيد كذلك يزداد الشعر جمالاً ونعومة ويميل إلى اللون الرمادي أحياناً وتكبر أطراف الأظافر فتضايق المريض عند ارتداء الملابس، وتضعف عضلات الفخذين والركبتين ويتجمد الكتف بسبب التهاب غطاء مفصله وفقدان الرغبة الجنسية، أما العرض السابق لكلّ ذلك فهو أنّ العينين تبدوان كأنهما تحملقان في دهشة! الجفون ترجع للخلف فيظهر المزيد من بياض العين مع التهاب الأنسجة الموجودة خلف كرة العين فتبدأ في الجحوظ وتصير دامعة.

العلاج يبدأ بفحص الدم والكشف العضوي عما سبق ذكره ورسم القلب الكهربي والتصوير بالمواد المشعة والمسح بالومضان، استبعاد الأمراض ذاتية المناعة، ثمّ علاج ارتفاع ضغط الدم وتناول أقراص اليود والعقاقير المضادة لنشاط الغدة الدرقية، أو الهرمون الدرقي للتعويض حسب الحالة، والاستئصال الجراحي في حالة وجود ورم خبيث لا قدّر الله، وعلاج جميع المضاعفات بغسول مهدئ للعين، ومضادات الاكتئاب وكريم الأستيرويد لبقع الجلد السميك، أو علاج الغدة النخامية نفسها إن كان الخلل بسبب الهرمون المحفز للغدة الدرقية من الأصل!

د. هاني حجاج (كاتب من مصر)

المصدر: مجلة العربي/ العدد 684 لعام 2015م