• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

اقتصاد المحبّة

د. أمينة التيتون

اقتصاد المحبّة

◄يقبل كثير منّا – أو يحلم بالإقبال – على شراء بضائع العلامات التجارية المرموقة، باهظة الثمن، المغلفة بصورة جذابة والمعروضة في أماكن جميلة فاخرة، بينما تدار الظهور في أوقات كثيرة لبضائع المنتجين المهمشين متواضعة العرض والأسعار والمنافذ، حتى لو اتّضح أنّ جودتها لا تقل عن جودة الماركات العالمية الشهيرة، بل ربّما تتفوق عليها في بعض الأحيان، مقارنة بما تطلبه من ثمن.

ولكن – والحمد لله – لا يزال بيننا مَن يمتلك نظرة ثاقبة وقلباً رحيماً متعاطفاً وعقلاً قادراً على التفكير في البسطاء، وبصيرة ترى ما لديهم من قدرات ومواهب وعزم على المشاركة في تعمير الحياة.

من نتائج هذا العمق والتعاطف، برز أخيراً مصطلح التجارة العادلة على يد نشطاء الحركات الاجتماعية وأصحاب الاعمال المتمتعين بالوعي الاجتماعي والممارسين في مجال التنمية المستدامة المحلية والدولية والمستهلكين المهتمين بالجانب الأخلاقي من عمليات البيع والشراء، وذلك على خلفية تاريخ مديد من نقد اختلال ميزان العدالة الاجتماعية في التجارة العالمية.

ويساند هذا المصطلح اعتقاد راسخ بإمكان أن تكون التجارة وسيلة لتحقيق العدالة المفقودة.

- بين الجنوب والشمال

لقد ارتبطت التجارة العادلة أو ما يعرف أحياناً بـ«اقتصاد المحبّة» بمجموعة من المبدارت الملموسة التي تتحدّى الظلم الاجتماعي العالمي، وتساهم في خلق شبكات تربط المنتجين المهمشين في جنوب العالم بالمستهلكين التقدميين في شماله بتجارة منصفة، تحاول نقل التجارة العالمية من كونها مركبة للاستغلال إلى وسيلة للتعاون والتراحم والتعاطف والتمكين.

وفي طريقها لتحقيق هذا التحوّل، تسعى التجارة العادلة إلى تمكين المنتجين المهمشين من رفع أثمان السلع التي ينتجونها، ومنح أُجور مجزية وضمانات وتوفير بيئات عمل مريحة وآمنة وأسواق مستقرة تستوعب الإنتاج بصورة متزايدة، هذا إلى جانب إتاحة فرص تعلُّم وتدريب لترقية المهارات وبناء القدرات الفردية والجماعية التي تفضي في النهاية إلى نوع من الفاهة وتحقيق الذات.

- شراكة الحوار والاحترام

يقوم هذا النوع من التجارة على شراكة الحوار والشفافية والاحترام وتبادل المعلومات والخبرات ومناصرة السياسات التجارية المنصفة، والاتفاق على ضرورة أن تكون العدالة والتنمية المستدامة في قلب هياكل التجارة وممارساتها، حيث يستطيع كلّ شخص أن يعمل ويتمتع بحياة كريمة وغنية بفرص تنمية الإمكانات.

وعلى هذا تكون مبادئ تأمين وصول المنتجين المهمشين إلى الأسواق، وبناء علاقات تجارية مستدامة وعادلة، والتمكين، ورفع وعي المستهلك والدفاع عنه، و«العقد الاجتماعي» بين المشتري والمنتج، مبادئ محدّدة لرؤية التجارة العادلة التي تلعب دوراً فاعلاً في إحداث التحولات الاجتماعية والتنمية الدولية.

وتتقاطع التجارة العادلة في رؤيتها ورسالته مع حركات أُخرى مناصرة للعدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كحركة حقوق للإنسان وحركة الديمقراطية العالمية، وحركات الفلّاحين والعمّال، والحركات النسوية بمختلف توجهاتها، بينما تتميّز بقدرتها العملية على إثبات حقيقة أنّ العلاقات العادلة والمستدامة غير مستحيلة.

- معايير ونُظم تصديق

تهتم التجارة العادلة بتطبيق معايير ونُظم تصديق تشجع تهيئة ظروف بيئية واجتماعية صارمة في شبكات الإنتاج العالمي. وعادة ما تعرف هذه الترتيبات المؤسسية بالتشريعات الخاصّة أو التطوعية غير الملزمة قانونياً، أو بالمبادرات القائمة على إشراك مختلف الفئات من أصحاب المصلحة الذين يتجاوز دورهم الإشراف الصارم على ممارسات الأعمال إلى التركيز بصورة كبيرة على قضايا العمل وقطاعات الزراعة والموارد الطبيعية والظروف الإيكولوجية.

وتعمل هذه التجارة في إطار تطوي يجمع منظمات الأعمال والمنظمات غير الحكومية وسواها من الكيانات مثلما تجمع بين الجوانب الأخلاقية والجوانب البيئية، وبين نُظم الإنتاج وتعميق العلاقات التجارية من أجل تنظيم اجتماعي يحقّق أهدافاً نبيلة.

- كيانات داعمة

تعدّ مؤسّسة التجارة العادلة (fair trade foundation) من الكيانات الداعمة التي تعرّف بهذا النوع من التجارة وتوفّر مصادر تعلُّم لجميع الأعمار، كالفيلم الذي يروي حكاية مزارع قهوة في كينيا والتحدّيات التي تقابله، وأهمّية التجارة العادلة بالنسبة إليه.

كما تدعو المؤسّسة الأفراد وأصحاب الأعمال إلى الانضمام إليها، ومساندة صغار المنتجين والعمّال بشراء منتجاتهم التي تقدر بآلاف الأصناف، ومنها الشاي والقهوة والكاكاو والورد والموز، وتحمل جميعها علامة التجارة العادلة.

وتفتح الباب للتبرع المباشر أو من خلال أنشطة كبيع منتجات مكوّنة من خامات منتجات التجارة العادلة، وذلك من أجل المساهمة في تحسين أحوال المنتجين المعيشية. وترصد المؤسّسة جائزة لأكثر المدارس اهتماماً بدمج موضوع التجارة العادلة في المناهج والأنشطة المدرسية.

ويتخذ عديد من المنظمات والمؤسّسات الأكاديمية موضوع هذه التجارة عنواناً لمؤتمراتها – كمؤتمر كلّية إدارة الأعمال بجامعة بورتسموث البريطانية الذي عقد في يونيو 2018 حول التجارة العادلة – كمثال للشراكات النشطة المطلوبة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وتشجع التشبيك والتسوق الأخلاقي الذي يتضمن البحث عن ملصقات التجارة العادلة والمنتجات العضوية والصديقة للبيئة، ودعم الأسماء التجارية الواعية اجتماعياً، وطرح أسئلة مهمّة مثل: «مَن صنع ملابسي؟» و«هل أحتاج إلى شراء هذا حقّاً؟»، وتنصح بالتقليل من المخلفات بتجنّب منتجات الاستخدام الواحد، وتحث على مساندة المنتجين والمصممين المحليين بالشراء من الأسواق والمتاجر المحلية، وتروج لشعارات مثل: «الشراء في الموسم والبحث عن منتجات فريدة»، و«اصنعه بنفسك».

- بداية الفكرة

تعتبر منظمة (SERRV) الدولية المستقلة غير الربحية للتجارة البديلة رائدة حركة التجارة العادلة وعضواً مؤسّساً فيها وفي اتحاد التجارة العادلة. فهي تعمل في الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، وتسعى منذ نهاية الأربعينيات إلى تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمنتجين المهمشين في المناطق الفقيرة بتسويق منتجاتهم في إطار تجارة عادلة بديلة. وقد نجحت خلال مسيرتها في تغيير حيوات كثير من الناس، وساهمت في كسر دائرة الفقرة.

وممّا يذكر أنّه مع نهاية الخمسينيات بدأت «أوكسفام بريطانيا» في بيع التحف المصنعة بأيدي اللاجئين الصينيين في محالها. وشهدت هولندا مبادرات موازية حين راحت بعض المنظمات تبيع قصب السكر مع رسالة مفادها: «بشرائك قصب السكر تتيح مكاناً لمواطني بلدان فقيرة تحت شمس الازدهار».

كما باعت هذه المجموعات أشغالاً يدوية مصنوعة في الجنوب. وفي عام 1969، تم افتتاح أوّل محل للعالم الثالث يبيع وفقاً لمبادئ التجارة العادلة التي لعبت دوراً مهماً في تسويق المنتجات وتنظيم حملات التوعية.

- اتحاد التجارة البديلة

شهدت سبعينيات القرن الماضي وجود منظمات تجارة بديلة تلتقي على فترات متباعدة لمناقشة همومها المشتركة.

وفي مؤتمر عقد في مدينة برلين عام 1987، تبيّنت حاجة هذه المنظمات إلى تدابير أكثر رسمية، وتشكّلت على أثر ذلك لجنة موجهة للتخطيط من أجل خلق اتحاد للتجارة البديلة.

وعملت اللجنة على إعداد مسودة للقانون الأساسي، تمّ تقديمها في الاجتماع الثامن والثلاثين المنعقد في هولندا عام 1989. وبعد نقاش موسع، تمّ التصديق على القانون الأساسي، وانتخبت لجنة تنفيذية، وولد الاتحاد الدولي للتجارة البديلة (IFAT).

وتوالت بعد ذلك المؤتمرات. وفي عام 2002، أصبح عدد الأعضاء 180 منظمة من 55 دولة. ويزيد اليوم عدد الأعضاء على 350 من 70 دولة.

وإلى جانب العلامات التجارية المميّزة لمنتجات التجارة البديلة، توجد نُظم ضمان ومحاسبية ومراقبة، ويمكن للشركات والجمعيات والشبكات والكُتّاب والخبراء والمتخصصين والمهتمين وجميع القادرين على خدمة هذا النوع من التجارة والترويج له الانضمام إلى منظمة التجارة العادلة العالمية، والاحتفال في يوم السبت الثاني من شهر مايو من كلّ عام باليوم العالمي للتجارة العادلة.►

 

* أكاديمية من البحرين

المصدر: مجلة البيت العربي، العدد718، سنة 2018م.

ارسال التعليق

Top