• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأخلاق في المنظور القرآني

أ. محمد تقي مصباح اليزدي

الأخلاق في المنظور القرآني
◄لا يمكن في هذه العجالة إلا أن نعالج بعض المباحث العامة والأصولية فيما يتعلق بموضوع "الأخلاق في المنظور القرآني". لذلك فقد اخترنا الآيات المتعلقة بالموضوع من سورة "الشمس".   "التقوى" في قبال "الفجور": يستعمل في كل نظام أخلاقي مفهومان متضادان، الأوّل يدل على الأخلاق الممدوحة، والآخر يدل على الأخلاق المذمومة، واللفظ المشترك بين هذه كلها هو ما يفيد الصالح والطالح، غير أن هناك أحياناً ألفاظاً ذوات معانٍ أعمق وأدلّ من مجرد الصالح والطالح أو الحسن والسيِّئ، ففي هذه الآيات الشريفة نجد "الفجور" و"التقوى" مرة، ونجد "التزكية" و"التدسيس" مرة أخرى للدلالة على الصالح والطالح. إن دلالة معنى "الفجور" و"التقوى" أعمق من دلالة "الشر" و"الخير" في الأخلاق، فاللفظ الأوّل يشير إلى ما يدعو إلى تجنب الشر، وذلك لأنّه يكون السبب في ضياع الإنسان وخروجه عن حدود الفطرة، في قبال القيام باعمال الخير ومالها قيم أخلاقية إيجابية، فإن ذلك فضلاً عن كونه لا يضيع الإنسان ولا يخرجه عن فطرته، فإنّه يحافظ عليه أيضاً. وفي آية أخرى ثمة تعبير آخر غير "الفجور" و"التقوى" إذ تقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) الشمس/ 9). ومفهوم "التزكية" هنا يحمل المعنى ذاته، أقصد أن مصداقيهما واحد، على الرغم من اختلاف مفهوميهما، إن ما هو "تقوى" يكون "تزكية" أيضاً، وإن من "الفجور" ما هو "تدسية" النفس أيضاً، إلا أنّ لهذا المفهوم معاني أوسع تكون قادرة على تحريض المزكي على العمل، وذلك لأنّ القيام بالأعمال الصالحة الأخلاقية فضلاً عن كونه تقوى ويقي النفس من الأخطار والتلوث، فإنّه كذلك يستوجب التطور والنمو أيضاً. فالتزكية تفيد هذا المعنى أكثر من "التقوى". أما القيام بالأعمال الطالحة السيئة فإنّه يؤدي إلى نفوذ عنصر مضاد للفطرة إلى ذات الإنسان، ويكون كالسم الذي إذا مسّ الحلوى ونفذ فيها أفسدها وتسبب في خلق المشكلات.   تقديم ذكر "الفجور" على "التقوى": عند قراءة الآية: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/ 8)، يتبادر للذهن السؤال التالي: لماذا جاء لفظ "الفجور" قبل "التقوى". ثمّ في الآية التي بعدها: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10)، حيث يرد ذكر "التزكية" قبل "التدسية" فلماذا؟ انّ السياق الذي جاء في الآية قبلها كان يقتضي ان يقال "قد خاب من دساها وقد أفلح من زكاها" إذ إن ما يقابل "الفجور" هو "التدسية" فلماذا لم يراع هذا الترتيب في الآية الثانية؟ لماذا استعمال المشوش بدلاً من اللف والنشر المنظّمين؟ ما النكتة الخفية في هذا الأمر؟ إنّ طبيعة الإنسان العادي تستدعي أن تنمو فيه الغرائز الحيوانية أوّلاً فتكون الميول المادية وما يمكن أن يكون مصدراً للشر والفساد والتدسية، بالطبع، أصل الغريزة الحيوانية ليس شراً. إنّ الحاجة إلى الطعام وإلى الجنس ليست في حد ذاتها شراً من حيث التكوين، إنما الافراط والتفريط فيها هو الشر وهو المذموم، وإن استخدامها في غير محلها يوجب التدسية، وهكذا نلاحظ أنّ الدوافع المادية تظهر في الإنسان قبل الدوافع المعنوية والإلهية. ففي الطفل هذه الغرائز هي التي تظهر أوّلاً، ثمّ تتسع شيئاً فشيئاً وأولى هذه الغرائز هي غريزة الأكل والشرب، ثمّ اللعب، ومن ثمّ الميل نحو الجنس الآخر. في هذه الفترة، التي تسمى مرحلة البلوغ يظهر في الإنسان التوجه نحو المعنويات وعبادة الله تعالى، إلا أن هذا الميل لا يتفتح ذاتياً، كالغرائز الحيوانية، بل إنها تحتاج إلى التربية والعناية، في الوقت الذي لا تحتاج فيه الغرائز الحيوانية إلى مثل تلك التربية والعناية، وإنما هي سريعة التطور قبل غيرها من الغرائز وتنشط وتنمو وتتطلب الاشباع. فإذا لم تترب بالتزكية والتطهير فإنها قد تجر الإنسان إلى الفساد. وعليه لما كانت "الفجور" من نتائج الغرائز الحيوانية التي تظهر قبل الغرائز الأخرى، فقد وردت بالترتيب نفسه في القرآن الكريم، على الرغم من أنّ الغرائز الحيوانية لا تستلزم بالضرورة أن تكون هي وحدها المؤدية إلى الفجور، ولكنها قد تكون من أسبابها قد يتساءل سائل: لماذا يرد الفطري والطبيعي مترادفين، مع انّ الفطري يكون في طريق الخير؟ في الجواب يمكن القول إن ذلك يعود إلى تعدد الاصطلاحات، فقد يستعمل الفطري في قبال الاكتسابي، فعندما نقول هذا أمر فطري فإننا نعني بذلك انّه ليس اكتسابياً. وبناء على ذلك فإنّ الغرائز كلها فطرية، سواء أكانت من الأمور الفطرية الإنسانية أم من الغرائز الحيوانية. كما انّ الغرائز، أو الدوافع الباطنية، المتسامية التي تسمو على الغرائز الحيوانية، توصف بالفطرية أيضاً. إذا أخذنا (فَألْهَمَها) بالمعنى الثاني، فذلك يعني إنّ هذه الدوافع الفطرية موجودة في طبيعة الإنسان، أي الأمور التي يرى الإسلام إنها تسير بالإنسان نحو الفجور والتحلل. ولإدراك هذا المعنى في الفجور يمكن الرجوع إلى الآية الكريمة: (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) (القيامة/ 3-5)، وهو يجيب بنفسه راداً ويقول: كلا، هؤلاء لا يقولون إنّ الله ليس بقادر، إذ إن من يعرف الله ويقبله، يعلم أن قدرة الله ليست محدودة، فلماذا إذن ينكر المعاد؟ بَلى قادرينَ على أن نُسَوّيَ بَنانَهُ نعم نحن قادرون على إحياء الإنسان وأن نعيد حتى الخطوط في أنامله سوية كما كانت. إذن فسبب عدم قبول المعاد وإنكاره سبب نفسي. إنّه لا يريد أن يؤمن بذلك، لا لأن عقله ينكره، بل إن عقله يعلم ذلك، ولكن إرادته لا تريده يُريد الإنسان ليفجر أمامه. انّه يريد أن يكون حراً من دون أن تعيق حياته حدود وموانع، يريد ان يفعل ما يشاء. وهذا هو التحلل بعينه. إنه من لا يلتزم في حياته حداً ولا يضع قيداً على سلوكه، يكون أدعى إلى إنكار الأسس العقائدية وذلك لأن من يؤمن بيوم القيامة والحساب لا يمكن أن يتحلل من الحدود والقيود، لأنّه يعلم انّه سوف يحاسب على دقائق أعماله، وأن هناك ثواباً وعقاباً على ذلك، وعليه فإنّه يكون حذراً ويراقب أعماله، ويلتزم الحدود أكثر من غيره. أما الذي لا يرغب أن يكون مقيداً ملتزماً، فإنّه ينكر منذ البداية أصل الموضوع ويقول: ليس ثمة قيامة اطلاقاً.   إما سعيد وإما شقي: إنّ ما يلفت النظر في هذا الأمر هو أن هذه الآيات تلقي مزيداً من الضوء على أهمية تزكية النفس وتهذيب الأخلاق. إننا في العادة نتصور أن مسألة تهذيب الأخلاق تأتي في الدرجة الثانية من الأهمية، كالمستحبات تقريباً وهذا ما يتصوره المسلمون ومن لهم علم بالكتاب والسنة. أما غير هؤلاء فأمرهم مختلف. إننا نحسب تزكية الأخلاق وتهذيب النفس تأتيان في المرتبة الثانية، أي إنّ الإنسان بعد أن يُعنى بشؤون حياته ومعيشته، من المستحسن أن ينشغل بالأمور الأخلاقية والتزكية والتهذيب، وأما إذا لم يتح له الوقت الكافي لذلك، فإنّ له أموراً أوجب، كما أن عليه أن يهتم بشؤون الحياة. بيد أن لهذه الآية تعبيراً عجيباً لا يترك أمام الإنسان غير طريقين اثنين، فهي تقول: أيها الإنسان إنّ هذه النفس تقع تحت إرادتك واختيارك، وعليك أن تنتخب طريقاً من اثنين: فإما تزكيتها وإما تدسيسها، ولا ثالث لهما. فإذا انتخبت التزكية فأنت ممن "قد أفلح" وتلك السعادة والفلاح. أما إذا اخترت الطريق الثاني، فأنت ممن "قد خاب" فاقطع أملك من المستقبل ومن الوجود، إذ لا سعادة لك بهذا الاختيار.   علاقة الأخلاق بالعقيدة: إذن فتزكية النفس ليست قضية قليلة الأهمية حتى لا يكون لوجودها أو عدمه أهمية تذكر، بل يستفاد من هذه الآية أنّ "التزكية" على رأس أهم قضايا الإنسان الحياتية، وذلك لأنّ العلاقة بين "الأخلاق" و"العقيدة" علاقة قوية لا تنفصم. عندما تكون "العقيدة" من أهم الأسس في الإسلام، كذلك تكون "الأخلاق" من أهم الأسس الحياتية في الإسلام أيضاً. والأهم من هذين هي "العقيدة" أولاً ومن ثم "الأخلاق". ولكننا إذا تمعنّا في الأمر نلاحظ اننا إذا لم نُزكِ أخلاقنا، فقد نفقد عقيدتنا أيضاً. هذه حقيقة كشف القرآن عنها الحجاب. اننا لا نستطيع أن نصل إلى ذلك من دون الاستعانة بالقرآن الكريم، بل قد نتصور أن هناك حاجزاً بين الأخلاق والعقيدة، إذ إن موضع العقائد هو العقل والقلب والروح، وللأخلاق والصفات النفسية وكمالاتها مكان آخر. أمّا السلوك فظاهر علينا. فقد نقول إنّ هذا القسم يخص العقائد وعلم الكلام، وهذا القسم الآخر يخص الأخلاق. وهناك الفقه وأمثاله ونقول إنه لا رابط بينها، ولكننا عندما نرجع إلى القرآن والروايات الواردة في تفسير آياته نجد أن بعض ضروب الخُلق والعادات والطبائع تحول بين المرء والإيمان. فمثلاً، عندما قدم نصارى نجران للمباحثة مع الرسول (ص). بلغ الأمر بينهم إلى حد المباهلة، ولكنهم امتنعوا عن المباهلة. عندئذ قال الرسول (ص) ما مفاده: أن ما منع هؤلاء من قبول الإسلام ونبذ المسيحية ليس عدم إدراكهم أحقية الإسلام، بل هو العلاقة التي تربطهم بشرب الخمور وأكل الخنازير، لأنّهم إذا آمنوا بالإسلام فعليهم أن يمتنعوا عن كل ذلك. فهذه العلاقة منعتهم من الاقبال على الإيمان بالإسلام. يتبين من كلام رسول الله (ص) أن ليس ثمة حد بين الأخلاق والعقائد، أي ليس الأمر أن تحصل العقائد عن طريق العقل والدليل وحدهما، وتبقى الأخلاق خاصة بالملكات النفسية فحسب، بل إن هناك تعاملاً بينهما، فالخلق الحسن يمكن أن يكون أرضية صالحة لقبول الإيمان، مثلما كان بعض الناس يؤمن بمجرد رؤية امارات الصدق على رسول الله (ص)، وهذا لحسن أخلاقهم وحميد صفاتهم. يقول القرآن فيما يتعلق بالمسحيين الذين كانوا يسرعون إلى الإيمان: (لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ...) (المائدة/ 82-83)، هكذا القرآن يثني عليهم. إنّ ما يجعل النصارى أقرب إلى الإسلام وإظهار الود لهم وأسرع إلى قبول الحق، هو ان منهم علماء لا يركبهم التكبر، بل هم متواضعون، فإذا لم يؤمنوا يومئذ فإنما ذلك لأنّ الحقائق لم تنكشف لهم، وإلا فإنّهم ليسوا معاندين، على النقيض من اليهود الذين هم من أهل العناد وفيهم روح التكبر والأنانية والتعاظم، فهم يحسبون أنهم شعب الله المختار، لذلك يقول القرآن فيهم: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ) (المائدة/ 82)، بهذا البيان يتضح التفاعل بين الأخلاقيات والاعتقادات، فقد سبق القول بأن ما هيأ لأيمان النصارى هو تواضعهم، ودليل جحد اليهود الإسلام هو تكبرهم وأنانيتهم. كما أنّ القرآن يرى أن سبب كفر إبليس وطرده من رحمة الله هو أخلاقه الذميمة، وليس لأنّه لم يكن يدرك سبب السجود لآدم. يؤكد القرآن أن منشأ كفر إبليس هو تكبره: (اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة/ 34). إذن، فالأخلاق الذميمة يمكن أن تحول دون حصول الإيمان، بمثلما أنّ هذه الصفات الذميمة يمكن أن تقضي على الإيمان. فثمة أناس مؤمنون عملوا الصالحات، وحضروا في ميادين الجهاد، وخاطروا بأرواحهم، إلا ان صفات سيئة كانت فيهم من قبل أو حصلت لهم بعدئذ، سلبت منهم الإيمان. يقول الله تعالى في المنافقين: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (التوبة/ 77)، كان هؤلاء قد أسلموا وآمنوا وعاهدوا الله على انّه إذا أفاض عليهم من خيره فإنهم سوف ينفقون في سبيله. فلما أفاض عليهم واستغنوا، نسوا ما عاهدوا الله عليه ونقضوه، فلم ينفقوا، فكان نقضهم هذا لعهدهم سبب زوال إيمانهم وظهور النفاق مكانه في قلوبهم، وأن يبقى هذا النفاق في قلوبهم حتى يوم القيامة، وذلك بسبب الكذب، وخلف الوعد، ونقض العهد، مما ازال الإيمان من قلوبهم وأصابهم بالنفاق. إذن، فإن تزكية الأخلاق ليست قضية هينة فإذا ما غفل الإنسان عن رؤية عيوبه، ولم يعن باصلاحها، فإن تساهله هذا أ, تسامحه قد يؤدي به إلى الشرك والكفر والالحاد. وعليه، فإنّ توكيد القرآن "الفلاح" إلى هذا الحد وحصره في "التزكية": (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) يدل على أنّ الأمر أهم مما نظن، إذ ان دور الأخلاق في حياة الإنسان دور حياتي، فإذا لم يهتم المرء بذلك وبازالة التلوث عن أخلاقه، فإن مستقبله يكون محفوفاً بأشد الأخطار.   ما النفس وما الروح؟ ثمة سؤال يقول: ما المقصود بالنفس في الآية: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/ 7-8)؟ ترد لفظة "نفس" في القرآن بعدة معان، فمرة يقول: (إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي) (يوسف/ 53)، وفي موقع آخر يقول: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ) (الفجر/ 27-28). فهل "النفس" حسنة أم سيئة في نظر القرآن؟ وهل النفس بمعنى الروح أم هي في قبال العقل؟ في كتب الأخلاق كلام على الصراع بين النفس والعقل، فيقال إن ثمة صراعاً بين النفس والعقل في الإنسان، فتارة النفس هي الغالبة وتارة العقل هو الغالب. يقولون انّ "النفس" شيء في قبال "العقل". أما المشتغلون بالفلسفة فيرون النفس في هذه الآية وأمثالها هي تلك النفس المعروفة في الفلسفة، ففي الفلسفة فصل بعنوان "علم النفس"، وبموجب المعنى الفلسفي للنفس فهي "الروح". فهل "النفس" في هذه الآية تعني "الروح" أيضاً، وهل في المصطلح القرآني "النفس" و"الروح" شيء واحد أم لا؟ قبل الاجابة عن هذه الأسئلة لابدّ من الإشارة إلى أن بعضهم يعتقد إنّ الإنسان مُركب من عناصر ثلاثة: الجسم، والنفس، والروح. (هناك بالطبع العناصر الأخرى كالقلب والعقل وأمثالهما أضافها بعض آخرون، إلا أننا لسنا بصدد بحث ذلك). غير أنّ المعروف المشهور هو أنّ الإنسان يتألف من الجسم والروح، وأن لا شيء غير هذين، وكل ما في وجود الإنسان إما أن يكون من قوى الجسم وإما من قوى الروح، وليس ثمة عنصر الثالث. بيد أنّه لابدّ من القول بأنّ المعنى الفلسفي للنفس لا ينطبق على المعنى القرآني كل الانطباق، غير أنّه في بعض الحالات ينطبق عليه. يقول الله تعالى في الآية: (إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) (الأنعام/ 93)، هذه الآية تُجسّد مشهد الفزع لدى الكافرين عندما تأتي الملائكة لقبض أرواح الكفار والظالمين، فهو يخاطبهم بالقول: أخْرِجوا أنفُسَكُمْ وهذا ما يعني باللغة الدارجة "طلعت روحه". فلننظر ماذا يحدث عند قبض الروح. إنّنا نملك جسماً وروحاً. عند قبض الروح، تغادر الروح البدن. لذلك يكون تعبير الله عن ذلك بقوله: أخرجوا أنفسكم على لسان الملائكة، إنّه لا يقول: اخرجوا أرواحكم. ما هذا الذي تقبضه الملائكة ويخرج من البدن؟ هو هذه الروح التي يطلق عليها القرآن اسم "النفس". ثمّة آية أخرى تدل على أنّ المقصود بالنفس هو الروح: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا...) (الزمر/ 42). يتوفى كما يقول المفسرون هو تسلم الشيء كاملاً. إذا قبض شخص دينه كاملاً من المدين فإنّه يتوفى الدين، وكذلك يعني من قبضت روحه بكاملها. الله يتوفى الأنفس حين موتها، أي الأرواح: (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى) (الزمر/ 42)، إن من يحين حينه يموت أثناء النوم ولن تعود الروح إليه. أما الذي لم يحن وقت أجله، يعيد الله روحه إلى بدنه. إننا لسنا ننوي تفسير هذه الآيات والتعبيرات، إلا أن جماع الأمر هو أن ما يطلق عليه اسم "النفس" فيها هو ما يسمى في الفلسفة باسم "الروح". و"النفس" في هذه الآية بمعنى الروح الفلسفي يتطابق تماماً مع معنى النفس. إلا انّ الأمر ليس كذلك دائماً، إذ إنّ الاصطلاحات القرآنية أوسع نطاقاً من المصطلحات الفلسفية. فمرة يكون معنى النفس الفلسفي هو نفسه المعنى المقصود في القرآن، ومرة أخرى يعتر الكلمة تطور في المعنى ويقصد بها معاني أخرى. في هذه الحالة يشترك المعنيان في اللفظ. فحينما يقول: (إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي)، لا يعني إنّ كل روح تتصف بهذه الصفة، فهنا حيثية خاصة مطلوبة من الروح، وإلّا فإن روح الإنسان تميل إلى الخير أيضاً. انّ الروح التي تربت تربية صالحة بقيت فطرتها الأصيلة طاهرة، أو إنها منذ البداية، كأرواح الأنبياء والأولياء، متفتحة، أو إنها بعد التربية تصبح كأرواح الصالحين. فالأمر إذن لا يعني إنّ روح الإنسان أمارة بالسوء دائماً. إذن "النفس" مصطلح خاص يطلقه الأخلاقيون على ما يقابل "العقل". مثلاً يقولون إن عقله قد غلب نفسه، ولا يقولون إن عقله قد تغلب على روحه، وذلك لأنّ العقل نفسه جزء من القوى الروحية، وليس شيئاً ثالثاً ليكون بينه وبين الروح أي عداء. في كل إنسان ميلان: الأوّل هو الميل إلى التسامي وتجاوز الدنايا والميول الحيوانية. والثاني هو الميل للإخلاد إلى الأرض والانغمار في الماديات والانغماس في الشهوات. هذه هي الميول الدائمة الصراع بعض مع بعض. وقد اطلق علماء الأخلاق اسم "العقل" على الميول الخيرة المتسامية، واطلقوا اسم "النفس" على الميول الشريرة الملتصقة بالأرض، ولهذين الاصطلاحين تطبيقات في القرآن. وعلى ذلك فإن كلمة "نفس" تستعمل للدلالة على معانٍ متعددة، وقد ينسجم معناها أحياناً مع المعنى الفلسفي لها وقد يختلف أحياناً أخرى. والروح، بالمعنى الخاص (من حيث الاصطلاح الأخلاقي الخاص، فيطلق عليها اسم "العقل العملي"). ولفظة "نفس" في الآية: ونَفْسٍ وما سَوّاها مؤنث مجازي، وتدل على الوجود الإنساني، أي الإنسان بجسمه وروحه، أي الإنسان ذي الهوية الإنسانية، وليس الإنسان الذي إذا جرد من هويته لم يبق منه سوى الجسم. أما إذا اخذت هويته الإنسانية بنظر الاعتبار فيطلق عليه عندئذ اسم "النفس". الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول إنّه "سوّى" الإنسان مع هويته الإنسانية. فالتسوية هي مرتبة اكمال الخلق. إذن "سواها" تعني انّه تعالى أكمل خلق هذا الكائن، فعليه، لذلك، أن يتحرك في مسيرته نحو التكامل. هذا التعريف للنفس ينطبق على معناها الفلسفي، إلا إنّ المعنى القرآني والمعنى الفلسفي لا يتطابقان كل الانطباق، إذ إنّ الاصطلاح القرآني أعم وأشمل من المصطلح الفلسفي. وبعبارة أخرى، انّ هذه الكلمة مشتركة بينهما لفظياً، فمرة تعني المعنى الأخلاقي، كما في: إنّ النفس لأمارةٌ بالسُّوءِ، ومرة أخرى تكون متطابقة مع المعنى الفلسفي.   الحكمة في وجود الفجور: ثمة نكتة أخرى تطرح في هذا المضمار، وهي إنّ القرآن، بعد أن يقسم: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) (الشمس/ 7)، يقول: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، فيقدم ذكر الفجور على التقوى، وذلك لأنّ الإنسان، باستثناء الأنبياء والأولياء، تظهر فيه الميول الشهوانية أسرع من غيرها. وعليه فإن دوافع الفجور تظهر فيه أسرع تبعاً لذلك، وإن يكن تدريجياً. ثمّ بعد أن يتطور العقل وينمو وتظهر في الإنسان الميول الفطرية نحو التسامي، يظهر فيه ميل التوجه نحو الكمالات المعنوية والتقرب إلى الله، حينذاك يقبل على التقوى وتجنب الشهوات، إذن فالآية تتبع الترتيب الطبيعي لظهور هذه الميول والاتجاهات. وهناك تساؤل عما يجب الاستناد إليه في مقام التربية. صحيح أنّ الإنسان خلق ومعه حق الاختيار في اتخاذ طريق الخير أو طريق الشر: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3)، فهل المقصود ان يتوجه الإنسان للوصول إلى الكمال وإلى الجنة، أم إنّ الجنة والنار مطلوبان على حد سواء في نظر الله؟ الجواب هو أنّ الخلق كان للرحمة حتى يطوي الإنسان طريق التكامل. ولكن بما أنّ التكامل اختياري فلابدّ من وجود الشر لكي يتمكن الإنسان من اختيار الذهاب إلى الجنة. كما لابدّ من وجود النار حتى يتمكن الإنسان من أن يختار واحداً منهما، وإلا فلا يكون للإختيار معنى التفكير الفلسفي يقول إنّ الوصول إلى الكمال والجنة والقرب من الله ورحمته هي الهدف أصالةً، والذهاب إلى النار هو المقصود بالتبعية، لذلك يجب في التربية توجيه الإنسان نحو الهدف المقصود بالاصالة، وكذلك نحو الهدف بالتبعية، والدليل على ذلك هو أنّ القرآن يقول ابتداءً (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)، وذلك لأنّ الهدف هو الفلاح، (لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، أي أنّ الله خلق الناس للرحمة والكمال.   التزكية طريق السعادة: النكتة الأخيرة الجديرة بالذكر هي ما يتعلق بعبارة (قَد أفْلَحَ) إن من الطبيعي والفطري في الإنسان أن يطلب الفلاح والسعادة، فما من إنسان يطلب العذاب والتعاسة، لأنّ هذا الطلب يكون مخالفاً للفطرة. أما القول بأنّ الإنسان، فطرياً، كائن أناني، فذلك بحث ليس هذا مكانه، لأنّه يستوجب الاستدلال والبراهين العقلية. ولكن خلاصة الأمر هي أن كل مساعينا في الحياة تتجه نحو السعادة والرفاه، وما من أحد يسعى للحصول على التعاسة والشقاء، بل على العكس من ذلك، إذ يسعى الجميع لكي يكونوا بمنأى عن الشقاء والتعاسة. إذن فطلب السعادة أمر فطري وإذا تصور أحد إنّ الإنسان مجبور على طلب السعادة فلا يكون قد أخطأ، بل الأفضل أن نقول إنّ الإنسان مجبول على ذلك، على الرغم من أن تعبير "مجبول" مجازي: ولكن الإنسان، على وجه العموم يطلب السعادة، وهي الأصل في طلبه، ولكنه يبحث عن طريق الوصول إليها. ماذا نفعل لكي نكون سعداء؟ يقول القرآن: أيها الإنسان الذي هو بطبيعته يطلب الفلاح والسعادة، إعلم أن طريق السعادة هو طريق تزكية الأخلاق وتزكية النفس: قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها. إذن فإن تعبير قد أفْلَحَ عامل يحمل الإنسان على أن يعنى بتزكية الأخلاق.►   المصدر: مجلة الحضارة الإسلامية/ العدد الأوّل لسنة 1996م

ارسال التعليق

Top