• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأخوة والاختلاف

عمار كاظم

الأخوة والاختلاف
تتميز التجربة النبوية بعد الهجرة بكثرتها وتنوعها وإمتدادها وسعتها خلافاً للتجربة قبل الهجرة في المدينة. فقد انطلقت الأهداف من حيث انتهت تلك فقد وجدت القاعدة وولد المجتمع وبدأ رسول الله (ص) يعمل والمسلمون معه في سبيل إغناء تلك التجربة التي أنتجت ذلك الواقع بتجارب جديدة في أسلوب الدعوة وفي طريقة الحكم، وفي تنظيم الحياة على أساس قانون جديد متوازن يرعى جانب المادة كما يرعى جانب الروح، وينظم حقوق الفرد كما ينظم حقوق المجتمع ويعمل لتركيز العدالة على أساس من الحق ويدعو للمحبة على أساس الرحمة ويعمل للعزة والكرامة كما يدعو للتسامح وللعفو وللصبر الجميل ويشرع للسلم.. ويحمل المسلمين مسؤولية حمل الدعوة إلى العالم كله.. وقد كان من الطبيعي أن يهتم النبي (ص) بتنظيم هذا المجتمع الذي يحمل المسؤولية الإسلامية في قلبه وكيانه. وإنّ الطريقة العملية في توثيق العلاقات بين اتباع الدين الجديد فقد كان من الطبيعي أن تبدأ الرواسب النفسية والعقد التاريخية التي يختلف فيها المهاجرون مع بعضهم البعض ويختلف فيها الأنصار مع بعضهم البعض ويختلف فيها المهاجرون والأنصار فيما بينهم في التعبير عن نفسها بالخلافات المتنوعة والمنازعات المختلفة وقد لا يمكن السيطرة عليها بالمشاعر العاطفية التي يولدها الإيمان فكانت هذه التجربة فيما يمكن أن يكون قد قصده النبي محمد (ص) محاولة لإيجاد رابطة عضوية بين الأنصار أنفسهم وبين المهاجرين أنفسهم وبينهم وبين الأنصار لتتعمق المشاعر الإيمانية فلا تتركها طافية على السطح وتركز العلاقات الروحية فلا تبقى عرضة للاهتزاز ليتحقق للمجتمع الجديد التوازن والتماسك والارتباط ولتبدأ عملية المواساة في إطار محدود يشعر فيها الإنسان بحدود المسؤولية التي لا تبتعد عن حدود قدرته ولا تتركه ضائعاً أمام عمليات الاختيار في المجتمع الكبير وبهذا تحولت المواساة الأخوية إلى طريقة تربوية رائعة للترابط الإيماني في المجتمع الجديد حتى إذا استطاعت هذه الطريقة أن تحقق نتائجها العملية فيما حصل عليه المجتمع الإسلامي الأول من قوة وتماسك ومواساة.. واستطاع المسلمون أن يكتشفوا بفضل هذه التجربة القيمة الأخوة في الله التي تعتبر بديلاً عن الأخوة في النسب والرضاع فيما عاشوه من حياة رائعة في حالة الحرب والسلام وبدأوا يجربون المبدأ في إطاره العام فتجاوز كلّ واحد منهم الرابطة الخاصة إلى الرابطة العامة لأنّه عرف أنّ ما حدث كان طريقة تجريبية يتعرفون فيها إلى طبيعة العلاقة الجديدة وليست مجرد شيء خاص يقتصر على مورده.. وانطلق الإسلام بعد ذلك في الصورة التي حاول أن ينظم فيها علاقات المجتمع الجديد ليفسح المجال للأخوة الإيمانية بشكل عام فحمل فيها المؤمنين مسؤولية هذه الأخوة في الإطار العملي للعلاقات الإيجابية والسلبية للمجتمع وبقيت الأخوة الإسلامية شعاراً إسلامياً في جانب المشاعر والأعمال يضم المسلمين في المشرق والمغرب في وحدة شعورية رائعة ليصل العاملون من خلالها إلى المجالات العملية الأخرى من الوحدة ونحن قد نستطيع الاستفادة منها في العمل الإسلامي بين المؤمنين أنفسهم فنحاول تجسيد هذه التجربة في توثيق علاقاتهم ببعضهم على مستوى المسؤولية المحددة التي تربط واحداً من هذا بواحد من هناك مع التركيز على إيجاد هذا الارتباط بين الفئات التي تخضع لبعض العوامل والمؤثرات المقتضبة لوجود علاقات طيبة من أجل أن تؤدي هذه الرابطة الروحية إلى تجميد كلّ تلك العوامل والمؤثرات أو إلغائها بصورة كلية وربما استطعنا أن نحقق الكثير من النجاح في اتباع هذا الأسلوب في مرحلتنا الحاضرة كما استطاع المسلمون في عصور الإسلام الأولى أن يحققوا من خلاله النجاح الكبير حيث ساهم في انطلاق العامل الإسلامي في حياتهم ليكون له الأثر الكبير في علاقاتهم الروحية والعملية {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران/103). لابد للإنسان في الحياة من شيء يتمسك به عندما يضعف أمام الاهتزازات التي تسقط موقفه وموقعه وقد دعا الله المؤمنين في خطابه أن يعتصموا بحبله وحبل الله هو القرآن الذي أنزله على رسوله نوراً وهدى يخرج الناس به من الظلمات إلى النور وهو الإسلام الذي أضاء القرآن شريعته وعقيدته وامتداده في حياة الإنسان اعتصموا بحبل الله جميعا كأمة ليكن الإسلام هو الذي يجمعكم وليكن القرآن هو الذي يؤدي بكم إلى الوعي فتمسكوا به وتوحدوا به ولا تتفرقوا وتكونوا شيعاً وأحزاباً مذاهب هنا وهناك يضلل بعضها بعضا ويكفر بعضها بعضا كونوا أمة واحدة ومذهباً واحداً وخطاً واحداً، تمسكوا بهذا الحبل عندما يريد الآخرون أن يهزوكم ويضيعوكم في المتاهات. الله تعالى يريد أن يبين أنّ من أسباب الانهيار العام للأمة هو في الاختلاف الذي يحصل في داخلها كالاختلاف المذهبي في الدين الواحد والاختلاف السياسي في الأمة الواحدة والاختلاف الاجتماعي في المجتمع الواحد واختلاف المؤمنين بعضهم البعض بحيث يتحول الاختلاف إلى حال من الضعف والسقوط الذي يبعد المؤمنين وأصحاب الحق عن عنصر القوة وهذا ما أكده رسول الله (ص) في قوله: «ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها»، لأنّ الاختلاف يشغل الأمة ويبعدها عن قضاياها الأساسية فتفقد عناصر القوة في شخصيتها وهذا ما واجهته الأمة الإسلامية التي اختلفت فيها القيادات سواء الدينية أو السياسية أو الاجتماعية من بعد ما جاءها العلم من أجل تركيز مواقعها السلطوية والمالية والاجتماعية. نقرأ عن النبي (ص): «إنّ الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه»، عندما ينتشر المنكر وإثارة الاختلاف التي تنشر العداوة والشحناء والبغضاء بين المؤمنين مع وجود القيادات القادرة على أن تتحرك في الميدان من أجل توعية الناس على الحقِّ لتغيير هذا الواقع ولكنها لا تفعل. لذلك فإننا مسؤولون عن وحدتنا ومواجهة الفتنة بكلِّ أشكالها ولاسيما الفتنة التي تقع بين المتدينين الذين تنفذ إليهم حبائل الشيطان.

ارسال التعليق

Top