لزهر ساكر
الشمس منغمسة في الضحك هذا الصباح البنفسجي، على وقْع أنغام الدِّيَكة المحاصرة أجواء خضرة الريف، وتقفز متدحرجة لتصل أذني عمي الطيّب، الذي مازال مُمدّداً على سريره، وحبّات الكرى لم تفارق جفونه الناعمة.. الساعة تشير إلى تمام السابعة صباحاً، موعد ذهابه إلى عمله بصفته معلّماً في إحدى المدارس، وبعد لحظات تُناديه زوجته المصون "الطيِّب.. الطيب هيّا قم وأسرع"، وكانت رائحة الخبز الشهية تنبعثُ من المطبخ، فقام بسرعة البَرْق، وتناول فطوره مع زوجته وأولاده، ثمّ حوّل وجهته إلى عمله ومدرسته، وكلّه حُبور لتزويدهم بما تبقّى من عصارة جهوده، وثمار حصاده المرير في مجال التربية والتعليم، الذي قضى فيه رَدْحاً طويلاً من الزمن، حيث يجود ولا يبخل بما حَبَاهُ الله من فوانيس العلوم النورانية، ليُضيء بها دروب تلامذته. ويتوق عمي الطيّب طرباً إلى نجاح تلامتذته كل سنة، وكلهم يعترفون بجميل صنيعه، ورحيق إخلاصه. عمي الطيّب يناشد أبناءه التلامذة ويشجعهم على المضي قُدماً لنَيْل المراتب المشرّفة في دراستهم، يناشدهم بقوله: "أبنائي الأعزاء، يعز عليّ فراقكم بعد كل هذه السنين، التي قضيتها برفقة فراشات أحلامكم القرمزية".. ويصمتُ مَليّاً وتنسكب دمعتان صافيتان من مآقيه.. وبصوت أجَشّ يُكمل حديثه: "أولادي، تأسّفت كثيراً لهجرة أشباح الود النابعة من زنازين صمتي الخافت.. أولادي ويا ثمرة أزاهير المستقبل، ويا هبة السماء.. أستسمحكم لأنني ذقت طعم الراحة من عبَق أرواحكم الندّية.. أحبكم وفؤادي المكلوم يصطلي بنار خَبَا سعيرها كَمداً لفراقكم.. أبنائي يداي الحانيتان ودّعتا دفئاً ساطعاً طالما احتضنتاه؟ أبنائي بعد أيام معدودات، سيُقام حفل بمناسبة إحالتي إلى التقاعد.. سيقومون بتكريمي بعد سنوات العطاء التربوي الذي سقيت به ظمأ العطش لأترابكم. أعزائي كل ما أتمنّاه وأشتهيه الآن من شَبَق الأيام، هو رغبتي الجامحة في إرسالي من طرف هذه المؤسسة لزيارة بيت الله الحرام.. أودّعكم يا أبنائي على أمَل اللقاء بكم مُتوَّجين بأكاليل النجاح. أبنائي.. شكراً لشظايا ابتساماتكم الرقيقة.. شكراً لأجراس أسماعكم الطليقة". واغرورقت عيناهُ بالدموع التي جرت ساخنة بين دروب وجْنَتيه وعاد أدراجه، ودقات قلبه سائلة له: "تُرى ماذا سيكون طعم الاحتفال يا ترى؟ وهل من مفاجآت سارّة تنتظرني، وهل من براعم بريئة تُقبّلني؟". وبعد لحظات وصل إلى منزله المتواضع، وكان في استقباله زوجته رقيّة الوفية التي تحملت وَعْثَاء أوراقه، وكراساته المتناثرة هنا وهناك.. فقدمت له كوباً من الشاي الأخضر، فأوْمَأ برأسه وأردف قائلاً: "زوجتي العزيزة.. سيتم تكريمي في حفل الخميس المقبل، بمناسبة نهاية مشواري المهني والتربوي سأحال إلى التقاعد، ولا أدري ما طبَق ألوان جائزتي"، فقاطعته زوجته رقيّة قائلة: له: "لا تقلق يا زوجي فعيون السماء تحرسك وعناية الإله تحتضنك". وأتَى يوم الخميس مسرعاً، وها هو عمي الطيّب يرتدي بدلته الأنيقة.. وبسرعة يَلج قاعة الحفل ويجلس بتواضع وبكل تؤدَة. وبعد دقائق فوجئ بالسيد مدير المدرسة، ينثر عليه وابلاً من الشكر والتفاني في مشواره في حقل التعليم، ويُسلّمه شهادة تقدير وعرفان، وطقماً خاصاً بالقهوة.. فذُهل وتسمّر في مكانه كئيباً.. ثمّ عاد أدراجه حاملاً مع وزر الجائزة الحقيرة.. فهدّأت زوجته من روعه، وأحيَت في قلبه زهرة بيضاء سقتها له بماء الصبر. أما عمي الطيب المعلم والإنسان الطيب، فقد ذرف دموعاً غسلت أجفان وجهه الخَمْري، ثمّ استفاق برهة من كوابيس اليقظة التي سحقتها مرارة الأيام، وطمستها أنامل الأقلام، واندثرت أمنيته الموءودة، وانتحر أمله المتبرّج، وترسّبت في ذهنه بقايا من ذكريات المدرسة وروائح الطباشير. وتذكّر كلمات دوّنها بماء الذهب، وسقاها بعطر الحب.. "أبنائي يداي الحانيتان قد ودّعَتَا دفئاً طالما احتضنتاه؟ أستسمحكم يا أبنائي.. لأنني ذقت طعم الأمل بين أرواحكم، ونمتُ طويلاً بين بساط أفئدتكم".
*أم البواقي/ الجزائر
ارسال التعليق