والصلة بين المسلمين ليست صلة مواطنة أو مرافقة أو جوار أو معاملة خالية من الصلة الروحية بل هي أسمى من ذلك كلّه، فصلة المواطنة محدودة بالأرض التي ينتفع بها وصلة المرافقة مقصورة على المصاحبة وقتاً معيّناً إلى أن تنتهي المهمّة التي من أجلها كان الترافق وعلاقة الجوار التي أملتها الضرورة الحتمية لملاصقة موطن الإقامة أو العمل. أمّا العلاقة الدينية فليست محدودة بالزمان أو بالمكان إذ الإسلام يقيم هذه العلاقة على الإخاء الوثيق الذي تزدهر فيه حقائق الرسالة الإسلامية. وإذا كانت الإخوّة الدينية تسمو عن العلاقة المادّية المجرّدة فإنّها تسمو كذلك عن العلاقة النسبية المجرّدة وعلى ذلك تكون الإخوّة الدينية أقوى وأثبت من العلاقة النسبية، وممّا يؤكّد هذا أنّنا نلاحظ شرعاً أنّ الإخوّة الدينية لا تنفصم بانفصام الإخوّة النسبية والقرآن يوضّح هذا والواقع يؤكّده، يقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات/ 10).
وضرب المسلمون في بدر مُثلاً عليا لصدق الإيمان. وأنّهم آثروا رضاء الله ورسوله على حبّ الوالد والولد والأهل والعشيرة، فلا تعجب إذا كان الله سبحانه أشاد بهذه المواقف الصادقة وأمثالها في قوله سبحانه: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (المجادلة/ 22). وحرص الإسلام على تثبيت هذه الإخوّة وتقوية هذه العلاقة حتى أصبحت واقعاً ملموساً يحس الجميع بأثرها فطبّق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الإخوّة عملياً وواقعياً فور وصوله إلى المدينة مهاجراً فآخى بين المهاجرين والأنصار وبلغ بالأنصار أنّهم أحبّوا إخوانهم المهاجرين حبّاً فاق كلّ تصوّر ومن آثار ذلك الحبّ أنّهم آثروهم على أنفُسهم مهما بلغت بهم الظروف وسجّل القرآن ذلك في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).
أثمرت الإخوّة ثمرتها وآتت أكلها وصفت القلوب وطهرت السرائر وسجّل القرآن ذلك الدعاء (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر/ 10). وهكذا كان الرباط الأخوي الديني الذي قضى على ما كان قبل الإسلام من التمايز الطبقي والتفريق العنصري إذ كانوا يفرّقون بين الناس بالأجناس والألوان والمظاهر الدنيوية والمراتب الشخصية، فكان الإسلام معالجاً لهذا المرض الخطير فلا تمايز ولا عنصرية مادام الجميع يشهدون بشهادة التوحيد فآخى الإسلام بين أهل العقيدة بهذا الرباط المتين.
وليس الإسلام رابطة تجمع بين عدد قل أو كثر من الناس فحسب؛ ولكن جملة الحقائق التي تقر الأوضاع الصحيحة بين الناس وربّهم ثمّ بين الناس أجمعين، ومن ثمّ فأصحاب الإسلام وحملة رسالته يجب أن يستشعروا جلال العقيدة التي شرح الله بها صدورهم وجمع عليها أمرهم وأن يولوا التعارف عليها ما هو جدير به من عناية وإعزاز إنّه تعارف يجدّد ما درس من قرابة مشتركة بين الخلق ويؤكّد الأبوة المادّية المنهية إلى آدم بأبوة روحية ترجع إلى تعاليم الأديان المخلصة في رسالة الإسلام، وبذلك يصير الدِّين الخالص أساس إخوّة وثيقة العُرى تؤلف بين أتباعه في مشارق الأرض ومغاربها، وتجعل منهم على اختلاف الأمكنة والأزمنة وحدة راسخة الدعامة شامخة البناء لا تنال منها العواصف الهوج. وهذه الإخوّة هي روح الإيمان الحيّ، ولباب المشاعر الرقيقة التي يكنها المسلم لإخوانه حتى أنّه ليحيا بهم ويحيا لهم فكأنّهم انبثقوا من دوحة واحدة أو روح واحدة حل في أجسام متعدّدة. وجاء في القرآن الكريم ما يوضح سهولة الانتماء لذلك الشرف الأسمى وهو الإخوّة في الإيمان فما على الشخص إلّا أن يؤمن ويقوم بواجبه الذي ألزمه به الشرع، وحينئذ يصبح أخاً لجميع المسملين في كلّ مكان وزمان. يقول الله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (التوبة/ 11).مقالات ذات صلة
ارسال التعليق