تصادف ذكرى وفاة أبو جعفر محمّد بن علي الجواد في شهر ذي القعدة، وهو الإمام التاسع من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو من أصغر الأئمّة (عليهم السلام) في العمر الزمني، إلّا أنّه مع صغر سنه الذي يلتقي مع صغر سنّ يحيى (عليه السلام)، كان يمثّل ما يشبه المعجزة البشرية، (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم/ 12). لكن هذا الإمام تميّز بالعلم الواسع الغزير الذي تفوّق به على كثير من علماء عصره، حتى إنّ الخليفة العباسي آنذاك، المأمون، الذي كان من الخلفاء المثقفين؛ كان يقدّره ويعظّمه تعظيماً كبيراً، فيما رُوِي كان المأمون قد شغف بأبي جعفر ـ وهذه كنية الإمام الجواد ـ لما رأى من فضله مع صغر سنه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان، من علمائه، وزوّجه ابنته أُمّ الفضل متوفراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره. وعاش بعد وفاة أبيه الإمام علي بن موسى الرِّضا (عليه السلام) مسؤولية الإمامة، حيث يمكننا أن نسمّيه بـ«الإمام المعجزة»، لأنّ إمامته انفتحت على كلِّ الواقع وهو بعدُ في سنِّ الصِّبا، حيث حيّر العقول بعلمه الوافر وإجاباته عن أعقد المسائل، وقدرته على تبيان حكم الله في شريعته. وقد استطاع (علیه السلام) منذ حداثة سنِّه أن يُظهر ثبات الإمامة وصلابتها، حيث يُروى لما تُوفّي والده الرِّضا (عليه السلام) وقدم الخليفة المأمون إلى بغداد بعد وفاته (أي الرِّضا) بسنة، اتفق أنّه خرج إلى الصَّيد، فاجتاز بطرف البلد في طريقه، والصبيان يلعبون ومحمّد (الجواد) واقفٌ معهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنة فما حولها. فلما أقبل المأمون انصرف الصبيان هاربين، ووقف أبو جعفر محمّد (عليه السلام) فلم يبرح مكانه، فقرب منه الخليفة، فنظر إليه، وكأنّ الله عزّ وعلا ألقى عليه مسحةً من قبول، فوقف الخليفة، وقال له: يا غلام، ما منعك من الانصراف مع الصبيان؟ فقال له محمّد (الجواد) مُسرعاً: «يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضيقٌ لأوسّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظنّي بك حَسَنٌ إنّك لا تضرُّ من لا ذنب له، فوقفت».. إنّ هذه الكلمات العاقلة المتزنة تدلّ على وعي عميق للأُمور التي تترك تأثيرها على الإنسان في مواجهته للسلطة لتدفعه إلى الخوف والهرب منها، فلماذا يخاف إذا لم تكن له جريمة يعاقب عليها؟ ولماذا يتراجع عن موقعه في الطريق إذا كان يتسع لمرور الآخرين من دون أن يضيّق عليهم بمكانه ليزول عنها؟! هذا بالإضافة إلى شجاعة الموقف وجرأة الخطاب وصلابة الإرادة، ممّا لا يصدر من صبي يختزن عقل الصبا في شخصيته، بل إنّ ذلك يكشف عن عقل مفكر واسعٍ منفتح على الواقع من خلال مَلَكة قدسية ربّانية.. وهذه هي المَلَكة التي فرضت احترامه على المأمون وعلى الناس المحيطين به.
فالإمام الجواد (عليه السلام) كان مدرسة أخلاقية منفتحة بكلّ جوانبها على واقع الحياة، ومدّ المجتمع بكم هائل من القيم والمبادئ التي تجعل من المجتمع مجتمع متكامل ومتجانس من حيث الأخلاق والقيم الفاضلة.. فأثر على عامّة الناس حيث كان يتحدّث الإمام عن الصفات الأساسية للمؤمن، بقوله: «المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله ـ أن يوفقه الله للحقّ وللخير وللالتزام الديني، وأن يفتح قلبه على ذلك كلّه ـ وواعظ من نفسه ـ بمعنى أنّه لا يحتاج إلى واعظ من الخارج، بل يُحاسب نفسه ويعظها بالتأمّل والتدبّر والتفكير، حتى تعرف نفسه من خلال تأمّلاته ومجاهداته، ما ينبغي لها أن تفعله، وما ينبغي لها أن تتركه ـ وقبول ممّن ينصحه»، أن يستمع النصيحة من الناصحين الذين يملكون الخبرة والمعرفة والإخلاص، فيفتح عقله لهم، ليفكّر في ما ينصحونه به، ويتقبّل ذلك عندما يرى الخير في هذه النصيحة، لأنّ الإنسان المؤمن لابدّ له من تجديد نفسه بما يصلحها، وأن يغيرها فيما إذا كانت تسير في اتجاه ليس من مصلحتها، ولهذا يقول تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). وهكذا ينطلق الإمام (عليه السلام) ليتحدّث عن الإنسان في الحياة، كيف يتحرّك بالمعروف؛ المعروف في الكلام والعمل، وفي الموقف. يُقال «إنّ للجنّة باباً يُقال له باب المعروف، لا يدخله إلّا أهل المعروف».. فكان الإمام (عليه السلام) قدوة وأُسوة يُحتذى بها في كلّ زمان ومكان، ومدرسة القيم والأخلاق التي كانت ترفد المجتمع ليعيش العزّة والإيمان الحقيقي.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق