• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التسامح الديني بين النظرية والتطبيق

التسامح الديني بين النظرية والتطبيق

◄التسامح الديني(*) – إصطلاحاً – يُقصد به الإشارة إلى ما يحتوي عليه دين ما من قواعد تسمح بحرِّية الأديان الأخرى، وما يتحلّى به أتباع هذا الدِّين من قابليّة لاستيعاب أتباع العقائد المُخالفة.

وبحسب (الموسوعة الإسلامية المُيسّرة) ج3، فإنّ للتسامح الديني مستويين إثنين:

الأوّل: مستوى نظريّ: ويُقصد به القواعد والأسس والمبادئ.

الثاني: مستوى عملي: أي التطبيقات والسلوكيات المنعكسة عن تلك القواعد.

ويرى الباحثون – مسلمين وغير مسلمين – أنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي يحتوي كتابه المنزل (القرآن الكريم) على قواعد مسجّلة تُنظِّم تعامل أتباعه على أتباع الأديان الأخرى، وذلك على خلاف اليهودية والنصرانية مثلاً، اللّتين تخلو كتبهما من مثل هذه القواعد الصريحة المتعلِّقة بالموضع مباشرة، ممّا دعا رجال الدين فيهما إلى اللجوء إلى الأخلاقيات التي جاءت بها التوراة والإنجيل.

ومن بين تلك القواعد القرآنية في مبدأ التسامح الديني، قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة/ 8).

ولقد رسّخ الإسلام – من أجل التسامح الديني – عدداً من الأسس المرعيّة، ومنها:

1- أنّ الأديان تستقي من معينٍ واحد:

قال سبحانه: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى/ 13).

    

2- الأنبياء إخوة ودعوتهم واحدة:

قال عزّ وجلّ: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة/ 136).

3- لا إكراه في الدِّين، فالعقيدة يجب أن يتلقّاها العقل والقلب بالقبول:

قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 256).

4- إختلاف الدِّين لا يمنع من البر والإحسان:

قال جلّ جلاله: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة/ 8).

5- الجدال مع غير المسلمين يكون بالتي هي أحسن:

قال تبارك وتعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت/ 46).

وقال عزّ وجلّ: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام/ 108).

وفي السيرة المُطهّرة ورد عن النبي (ص) قوله: "مَن آذى إنجبيليّاً فقد أذاني".

وفي الرواية عن أبي داود، عن النبي (ص) قال: "مَن ظَلَمَ مُعاهداً، أو تنقّصه حقّه، وكلّفهُ فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيبِ نفسٍ، فأنا خصمه يوم القيامة".

وورد في (سيرة ابن هشام) أنّ النبي (ص) استقبل وفد نصارى نجران، وسمحَ لهم بإقامة الصلاة في مسجده، وأخرج (البيهقي) في (دلائل النبوّة) أنّ المصطفى (ص) استقبل وفد نصارى الحبشة وخدمهم بنفسه، وقال: "إنّهم كانوا لأصحابنا مُكرِمين، فأحبُّ أن أكرمهم بنفسي"!

ويقول (توماس أرنولد) في كتابه (التبشير بالإسلام): "لو أخذ بعين الاعتبار المشاعر الدينية اللاهبة التي كانت تعمر أفئدة الجماهير الإسبانية المسلمة، واستفزازات المسيحيين للحكم الإسلامي باتصالهم وتآمرهم سرّاً مع أبناء دينهم في الطرف الآخر من الحدود، لبدى لنا تأريخ إسبانيا في ظلِّ الإسلام بريئاً من الاضطهادات على نحو لافِت للنظر.

ويضيف (أرنولد) قائلاً: "ويعترف المستشرقون بالإجمال، خلا قلّة منهم يتسلط عليهم وسواس العداء للإسلام، بأنّ معاملة الذِّمِّيين كانت بوجه العموم مُتسامحة"!

ويذكر (ول ديورانت) في (قصّة الحضارة) والحقيقة الميدانية والتأريخية التالية: "ظلّ الإسلام منذ بزغ أكثر من ستة قرون يتزعّم العالم في القوة والنظام، والخُلق والتشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والبحث العلمي، والفلسفة، والطب والأدب".

ولعلّنا نستطيع اختصار مقولة الإسلام في التسامح الديني في المأثور عن النبي (ص): "خالِط الناس ودينك لا تكلمنّه"، والكلم: الجرح. فالانفتاح على الآخر – أيّاً كان هذا الآخر، من أيِّ عرق أو دين – هو مبدأ إجتماعي إسلامي ينطلق من مبدأ أساسي أعظم وهو (التعارف) في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13).

فمُخالطة الناس والتعارف والأخذ عنهم في حدود ما لا يتنافى وشرع الله، هو سرّ التسامح الديني الذي يُعدّ الإسلام الرائد والمميّز في أبعاده وتقنينه.

    

- التسامح السياسي:

قد لا يكون التسامح السياسي مصطلحاً متداولاً كالتسامح الديني، ولكنه يندرج تحت عناوين ومصطلحات سياسية مقاربة كـ(التعايش السلمي) الذي يُقصَد به وبحسب القاموس السياسي، قيام تعاون بين دول العالم على أساس من التفاهم وتبادل المصالح الاقتصادية والثقافية. وممّا ساعد على إبراز الدعوة إلى سياسة التعايش السلمي، الفزع الذري، ولذلك راجت الدعوات إلى مثل هذا التعايش الذي يقوم على التنسيق في العلاقات الدولية، وإلى نبذ الحرب، وسياسة حافّة الهاوية، والتلويح باستخدام معدات الدمار الشامل.

وقد يأخذ التسامح السياسي صورة الأسلوب الديمقراطي في الحكم من خلال الإعلام الحرّ والتعدّدية السياسية، والانتخابات البرلمانية، والقواعد الدستورية التي تُتيح للجميع حقّ ممارسة السلطة ونقدها وإسقاطها في حال عجزت أو شذّت عن برنامجها الانتخابي ووعودها لأبناء الشعب.

وفي صيغةٍ أخرى، يمكن أن يُمثِّل التسامح السياسي حالة الانفتاح السياسي بين الإسلاميين والعلمانيِّين، في نطاق ما يمكن أن يُحقِّق المصالح المشتركة ولا يُسيء لحركة الدِّين بشيء.

إنّ أسلوب الانفتاح السياسي على الآخرين – لا بشكل عشوائي مطلق، بل بشكل مدروس – هو خيار تأخذ به اليوم الكثير بل معظم الحركات السياسية الإسلامية من خلال اللِّقاء على أرض وأهداف مشتركة في بعض مراحل الطريق، ذلك أنّ الاعتراف بالوجود لا يعني الاعتراف بالشرعية، فقد تفرض الظروف اللقاء مع الآخر المختلف فكرياً، والتنسيق معه لتحقيق مصالح لحساب المسلمين. فلا يصحّ اعتبار معاهدة الرسول (ص) مع اليهود في بداية الهجرة اعترافاً بشرعيّتهم، ولا اعتبار صلح الحديبيّة اعترافات بشرك المشركين.

ولا يجوز فهم التسامح السياسي، أو الانفتاح السياسي على أنّه الغفلة عن الأساليب الخادعة، والخطط المعقدة، والحركات المشبوهة، والشخصيات القلقة، والظروف الخطرة، مما يسهم في عملية التضليل واهتزاز المواقع.►

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (*) التسامح الديني مُصطلح حديث لم يكن دارجاً قبل القرن التاسع عشر الميلادي، إلا أنه أخذ دوراً كبيراً منذ ذلك الوقت.

ارسال التعليق

Top