• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التسامح منظومة قيمية

أسرة

التسامح منظومة قيمية
التسامح منظومة قيمية* إذا أُخذ التسامح معزولاً أو مفصولاً عن القيم الأخرى، فيمكن أن يبدو منظره جميلاً، لكنه وهو يسير في الحياة محفوظاً بوفد أو طائفة من القيم العُليا يتجلى جماله أكثر، حتى ليخال للباحث في القيم الإسلامية أنّها أشبه شيء بالمجموعة الشمسية التي لكلٍّ منها فلكه ومداره الخاص، كما أنّ له فلكاً أو مداراً عامّاً.   1- التسامح.. سخاء: إذا سامحتني فأنتَ سخيّ، فالسخاء خُلق الله الأعظم، وفي الحديث عن النبي الأكرم (ص): "إنّ السخاء شجرة من أشجار الجنة لها أغصان متدلِّية في الدنيا، فمَن كان سخيّاً تعلّق بغصن من أغصانها، فساقه ذلك الغصن إلى الجنة". والتسامح بلا ريب – غصن كبير من أغصان شجرة التسامح. إنّ العفو والصفح والمغفرة والتسامح لا تصدر عن (بخيل) أو عن (حاقد) أو (جاحد) قطّ، فإذا سامحتَ برهنتَ على النبل وعلى روحية العطاء وعلى كرم شخصيّتك، ألم نقل إنّ "المُسامح كريم"، وخيرُ السخاء والكرم ستر العيوب والعفو عنها، ولا تُستر إلا بالمُسامحة، ولا يعفى عنها إلا بالتسامح. وإذا كان السخاء يُثمر الصفاء، فالمُسامح أوّل مَن يجني هذه الثمرة؛ لأنّه زرع المحبة بمسامحة الكريم، فرآها صفاءً في العلاقة مع الآخر.   2- التسامح.. شجاعة: المُسامح شجاع؛ لأنّه يقف بين خيارين: الانتقام أو المسامحة، فيختار الثاني؛ لأنّه يرى في الانتقام جبناً، أو رد بالمثل، بينما يرى في غضِّ الطرف، والإغضاء عن الخطأ مرتبة عالية من ضبط النفس والتعالي على التهور والإنجراف، بل ويعتقد أنّ الصبر شجاعة، وأنّ المُسامحة فضيلة والشجاعة في عدم الإنجرار إلى نفس الموقف عزّاً. يقول الإمام علي (ع): "أشجع الناس مَن غلبَ الجهلَ بالحلم"، فإذا كان المُسيء أو المُخطئ جاهلاً، فلا يُقابل جهله بجهل، ولذلك قيل: "ما أشجع البريء" وأجبن المُسيء. وإذا كان الحليم لا يُعرف إلا عند الغضب، والشجاع إلا عند الحرب، فإنّ المسامح حليمٌ يكفّ غضبه، شجاع يُقلع عن الانتقام الذي هو سهل يسير على النفس، ويختار المسامحة وهي شديدة ثقيلة على النفس لأنّها خلاف هواها.   3- التسامح.. إحسان: المُسامح مُحسن.. لأنّه لم يختر الإساءة ردّاً على إساءة المُسيء، بل تجاوزها إلى ما هو خيرٌ منها، فهو يعلم هذا جيِّداً و"زينة العلم الإحسان"، كما يعلم أنّ الإساءة غريزة الأشرار وطبعهم وشيمتهم، وهو لا يريد أن يتنزّل عن الإحسان الذي هو غريزة الأخيار الأحرار، إلى اللّؤم الذي هو غريزة الأشرار. إنّه على بيِّنةٍ أنّه "بالإحسان وتغمّد (إخفاء) الذنوب بالغفران يعظم المجد". وهو يريد الزيادة في رصيد مجده، لا أن يُعاب بردّ الإساءة كما عيب المسيء إليه. وهو إذ يكتب الإساءة على الرمل، بل على الماء لا يطلب مردودها الآنيّ فحسب، بل يريدها زاداً لمعاده: "زاد المعاد الإحسان إلى العِباد"! إنّ كلمة النبي (ص): "أحسِن إلى مَن أساءَ إليك"، تتردّد في مسامعه حتى لتغلب نبرتها نبرة الشيطان الذي يغريه بالتشفِّي والإنتقام. كما أنّه يستحضر مهمّته كمُصلح، فهو لا يريد كسر المُسيء أو تحطيمه، فهو أخوه الذي لا يرغب بخسارته أخاً، وإذا كانت قد صدرت منه هفوة أو زلّة، فليس كله زلات وليس كله هفوات، والقليل لا يُصادر الكثير. يقول الإمام علي (ع): "أصلِح المُسيء بحُسن فِعالِك".. وهو فعلٌ أحسن من المسامحة التي تستصلح العدوّ؟! إنّ المُسامح يعلم تماماً أنّ "المُحسن مُعان" من قِبَل الناس الذين يُقدِّرون القيمة والخلق النبيل، وأنّ "المُسيء مُهان"، فلا يختار الإهانة والناس أعوانه على المُسيء.   4- التسامح.. صُلح: المسامح صالحٌ مُصالح.. يقرأ قوله تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء/ 128)، فيعلم أنّ الصلح سيد الأحكام، وهو بمسامحته المسيء يُصلح ذات بينهما، وهو يرى أنّ في الصلح دِعة وفرصة ثمينة لتنقية الأجواء والعودة إلى الصفاء، هو إنسان يُفكِّر بالربح دائماً، ومقابلة الإساءة بالإساءة خسارة، وهو في نظر نفسه عاجز إن قابل الضعف بضعف، والمهانة بالمهانة، والسوء بالإساءة، والجهل بالجهالة. إصلاح ذات البَيْن عنده أفضل من درجة الصِّيام والصلاة والصدقة، وإن فساده هي (الحالقة) التي تحلق الحسنات وتزيلها كما تحلق شفرة الحلاقة الشعر، فإذا كان الهدم سهلاً فإنّ البناء صعب، وهو لا يريد أن يستسهل الهدم لعلاقة وطيدة شابها كدر، ولذلك ترى المُسامح يُردِّد في نفسه: ولكُلِّ صافيةٍ قذى **** ولكلِّ خالصةٍ شوائبُ القذى: الشائبة التي تُكدِّر الماء الصافي كالقشّة وما أشبه ذلك.   5- التسامح.. حرِّية: المُسامح حرّ، ولو قيّد نفسه بالإنتقام ورد الإساءة لما كان حرّاً، هو حرٌّ لأنّه مختار، خيّر نفسه بين التشفِّي وبين المسامحة، فوجد لهذه لذّة ولتلك لذة، فلم يؤثر لذة التشفي على لذة المسامحة والتسامح، وكيف تُقاس هذه بتلك والتشفي انسياق مع الشهوة، بينما التسامح سباحة عكس تيارها، تلك تهدم المناعة وهذه تبنيها، وصدق مَن قال: "مَن ترك الشهوات كان حرّاً". يقول الإمام علي (ع): "الحرية مُنزّهة من الغلِّ والمكر"، والمنتقم يغلّه الغلّ، اي يُقيِّده الحقد بقيده، ويحتال ليمكر بمَن أساء إليه بأشدِّ من إساءته، أمّا العف والغفران، فهما سجيّة الأحرار، ولأنّ المُسامح حر فهو لا يجازي إلا بالإكرام: "ليس للأحرار جزاء إلا الإكرام". يقول الشاعر (سعدي الشيرازي): صاحبُ الشهوة عبدٌ فإذا **** غلبَ الشهوةَ صار الملكا   6- التسامح.. إنصاف: المُسامح مُنصِف، يضع نفسه في موضع المُسيء، يُقدِّر له صعوبة موقفه في الإساءة، ويحاول أن يُجنِّبه حراجة موقفه في الاعتذار، هو يحبّ له ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها. الإنصاف عند المُسامح مُستوحى من قِيَم شتّى، منها: أ‌-      "الإنصاف أفضل الشِّيَم". ب‌- "الإنصاف يستديم المحبّة". ت‌- "الإنصاف راحة". ث‌- "المُنصف كريم، الظالم لئيم". ج‌-   "لا عدل كالإنصاف". ح‌-   "إنك إن أنصفت من نفسِكَ أزلفكَ (قرّبك وأدناك) الله". خ‌-    مَن أنصف الناس من نفسه رُضي به حكماً لغيره". إنّ المُسامح يفهم أمر الله تعالى في قوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/ 90)، أمراً بالإنصاف والتفضّل ولا يجمعهما إلا مسامح.   7- التسامح.. صبر: المُسامح صبور، ولو تعجّل الموقف لكان بادر إلى الإساءة كرد فعلٍ لإساءة المسيء، ولقد كان من تعاليم السيد المسيح (ع) لأتباعه: "إنّكم لا تُدركون ما تحبّون إلا بصبركم على ما تكرهون". فالمُسامح صبر على ما يكره لينال ما يتمنّى من غفران الله وعفوه، ومن إصلاح المُسيء وكسب مودّته، ومن عدم الإنزلاق في شهوة الانتقام، وكما قلنا فإنّ المُسامح شجاع، والصبر بحدِّ ذاته شجاعة، وهو عون على تحمّل الإساءة بصدر رحب، فلقد أساء أعرابي إلى النبي (ص) واصفاً إياه بأنّه غير عادل، فأراد أصحاب النبي (ص) أن يُلقِّنوه درساً في عدم الاعتداء على النبوة، لكن النبي (ص) أخذه إلى بيته وأطعمه وأكرمه، فطابت نفسه، فقال له: سامحني يا رسول الله، فقد أخطأتُ بحقِّك، فطلب منه النبي (ص) أن يُظهر ذلك أمام أصحابه حتى يرتفع ما في نفوسهم عنه، ففعل، فقال (ص) ما مفاده أنّه مثله ومثلهم من هذا الأعرابي المُسي، كمثل ناقة شردت وتمرّدت، فحاول الناس إرجاعها بالقوّة، فامتنعت، ثمّ أتاها صاحبها فتودّد لها حتى أناخت له!!. فأيّما أفضل؟! يقول الشاعر: إنّ المسيء إذا جاريته أبداً **** بفعله زدته في غيِّه شَطَطاً العفو أحسن ما يُجزى المسيء به **** يُهينه أو يريه أنه سقطا!   8- التسامح.. رحمة: المسامح رحيم لأنّه تعلّم من أخلاق الله تعالى أنّه رؤوف رحيم يتودّد إلى مَن يؤذيه بأوليائه ومَن يؤذى فيه، وأنّه التواب الرحيم الذي يتوب على من يعاديه، ولذلك فهو يرحم مَن في الأرض أملاً ورجاءً بأن يرحمه مَن في السماء، ذلك أنّ من موجبات الرحمة الإلهية هي هذه الرحمة الإنسانية الغاضة الطرف، المتسامحة الصافحة عن أخطاء الضعفاء. يقول الإمام علي (ع): "أبلغ ما تستدرّ به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة". ومن الرحمة الإعفاء عن الأخطاء ومسامحة الجهلاء، والمُسامح إذا يرحم المُسيء يطمع بالرحمة الأوسع رحمة الرحمن الرحيم، هو يهبها في الدنيا صغيرة محدودة ليستحقّها في الآخرة واسعة شاملة. يقول الشاعر وقد اتخذ قراراً بالرحمة بالمسيئين: سأُلزِم نفسي الصفح عن كلِّ مُذنبٍ **** وإن كثرت منه إليَّ الجرائمُ فما الناس إلا واحدٌ من ثلاثةٍ **** شريفٌ، ومشروفٌ، ومثلٌ مُقاومُ   9- التسامح.. رفق: المسامح رفيق؛ لأنّ الرفق ما دخل على شيء إلا زانه، فكيف إذا كان الدخول على رفع العتب، وغفران الذنب، واللطف في معاملة المسيء؟ يقول الشاعر: إذا عفوتَ عن الإنسان سيِّئةً **** فلا تروِّعه تأنيباً وتقريعا المُسامح يستذكر أنّ التفاف الناس حول النبي (ص) واستقطابه لهم كان بهذا اللّطف والرِّفق والمُسامحة، لقول الله تعالى له: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) (آل عمران/ 159)، لا تصفح ولا تعفو ولا تُسامح، (لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، منفرطين مشتّتين مفترقين، (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)، حين يكون عفوك اجتلاباً لمشاعرهم، ومغفرتك زيادة في مودّتهم. وليس اعتباطاً – بعد ذلك – أن يكون الرِّفق نصفُ المعيشة؛ لأن به تقوم العلاقات وتدوم المودّات، وتستمرّ الصداقات، وتُستدام الزيجات، وتقوى الحكومات. ولقد كان الإمام علي (ع) يوصي من وحي التجربة، قائلاً: "الرِّفق بالأتباع من كرم الطِّباع". وكان النبي (ص) يصف المُسامح الرفيق بأنّه أعقل الناس، فيقول: "أعقل الناس أشدّهم مداراة للناس". إنّ مشكلة المشاكل اليوم هي شيوع العُنف بمختلف أصنافه، فبدلاً من (الحوار) والإلتقاء على كلمةٍ سواء)، وبدلاً من (الإصلاح) و(المُسامحة) وتذليل الصعاب، نرى أنّ اللغة السائدة بين الكثير من الأطراف والجماعات المتنازعة، هي لغة النار والإفناء والمصادرة. يقول الإمام علي (ع) في ثمرة الرفق والمسامحة: "الرِّفق يؤدي إلى السلم". والله رفيق يحب الرفق، ومن رفقه بنا تسليل أضغاننا، ومن السبل الكفيلة باستدلال الأضغان هو (التسامح)، بل يأتي في الصدارة منها.   10- التسامح.. إيثار: المُسامح مؤثر.. يؤثر الصفاء على المصادمة، والعفو على الانتقام، و(الجزاء) على المجازاة)؛ لأن المؤثر عادةً يزهد بالقريب لينال البعيد، فهو يرجو بلطف سماحته وتسامحه أن يحظى بشرف الإحسان والكرم. يقول تعالى لكليمه موسى (ع)، مبيِّناً منزلة المؤثِرين: "يا موسى! لا يأتيني أحد منهم قد عمل به (الإيثار) وقتاً من عمر إلا استحييت من محاسبته، وبوّأته (أحللته) من جنّتي حيث يشاء"! قل لي بربِّك: كيف لا يكون المُسامح مؤثراً إيثار العفو، وهو يعلم أنّ الله تعالى يُثيب صاحبه هذا الثواب، ويُكافأة هذه المكافأة؟!   11- التسامح.. مُداراة: كان رسول الله (ص) يقول: "أمرني ربِّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض". ولمُداراة الناس أشكال وصيغ متعدِّدة، لعل من أهمها المسامحة والتسامح، والمسامح إذ يُسامح الناس يستمتع بصحبته لهم، ويُميت أضغانهم، ولذلك جاء قول الإمام الصادق (ع) في قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة/ 83): "أي للناس كلهم مؤمنهم ومخالفهم: أمّا المؤمنون فيسبط لهم وجهه، وأمّا المخالفون فيُكلِّمهم بالمُداراة لاجتذابهم إلى الإيمان، فإنّه بأيسر من ذلك يكفّ شرورهم عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين". وفي (المحاسن) عن أبي بكر الحضرمي، قال (علقمةُ) أخي لأبي جعفر الإمام الباقر (ع): "إنّ أبا بكر – يعني أخاه – قال: يُقاتل الناس في عليّ! أي أنه يحارب الذين يشتمونه. فقال (ع): إني أراك لو سمعتَ إنساناً يشتم عليّاً فاستطعت أن تقطع أنفه فعلت؟! قلت: نعم. قال: فلا تفعل. ثمّ قال: إني لأسمع الرجل يسبُّ عليّاً واستتر منه بالسارية (الاستطوانة أو العمود من الخشب)، فإذا فرغ أتيته فصافحته"؟! إنّ وصيّة من قبيل: "دار الناس تأمن غوائلهم، وتسلم من مكائدهم"، يلتقطها المُسامح ليضعها في أجندته، ولتكون قاعدة من قواعد حياته العملية، ذلك أن مَن كفّ يده عن الناس، بالمُداراة والمسامحة، فإنما يكفّ عنهم يداً واحدة، ويكفّون عنه أيادي كثيرة"!   12- التسامح.. صدق: المُسامح صادق، لأنّه يعلم أنه يريد رأب الصدع، وإزالة الكدورة، وترميم العلاقة، والحفاظ على حبل المودة موصولاً، لذلك تصدِّقه نفسه على فعله التسامحي ويُصدِّقه الله عزّ وجلّ لأنّه يعلم بأنّه صادق. والمُسامح صادق مع الآخر المسيء، لا يعفو أو يصفح عنه ليستدرجه أو ليوقع به، أو يكيد له، فهو إذ يمدّ يد المُصافحة لا يطعن في الظهر، وإذ يشرق وجهه بابتسامة العفو لا يخفي وراءها قناعاً من تبييت الإساءة لاحقاً، فلا يتحوّل غصن الزيتون في يده إلى شوكة أو سكِّين أو إلى طعنات خلفيّة.   13- التسامح.. شرف: إذا كان أفضل الشرف (كفّ الأذى)، فالمُسامح من أفضل الشرفاء؛ لأنّه يكفّ أذاه عمّن آذاه، وبالتالي فإنّ المسامحة شرف؛ لأنّها تصطنع العشيرة، أي تجتذب الناس فيكون أصحاب المُسامح كثيراً، ولقد يسود بعضُ الناس قومه وعشيرته وأهله ربّما أبناء وطنه بهذا الشرف العظيم الذي لا يناله إلا ذو عظيم.   14- التسامح.. زُهد: المُسامح زاهد، لا بمعنى الزهد المادي في مالٍ أو ثروة أو عَرْضٍ دنيوي، بل هو زاهد بغرائزه وانفعالاته وشهوة انتقامه وغضبه، وهو أجل زينة يتحلّى بها متحلٍّ. قيل لأمير المؤمنين (ع): "ما الزهد في الدنيا؟ قال: تنكّبُ (الابتعاد عن) محارمها"! ومن محارمها أن تُقابل الإساءة بالإساءة والعدوان بالعدوان أو ربّما بأسوأ منهما تشفِّياً وانتقاماً. ومن صفات الزاهد أنّه يختار الآخرة على الدنيا، وعاقبة (الآجل) على محبّة (العاجل)، ولذلك فهو يزهد فيما يفنى (من كشفٍ وثأرٍ وانتقام) على قدر يقينه فيما يبقى، وهو يشعر شعوراً غامراً بالسعادة،حينما يسترجع الموقف ويستذكر الإساءة فيرى أن موقفه منها كان موقف الزاهد في المقابلة بالمثل.   15- التسامح.. عقل: المُسامح عاقلٌ ولا شكّ، وعارفٌ ولا شك؛ لأن معرفته دلّته على انتخاب طريق المسامحة هو – بجميع المقاييس – أفضل من اختيار طريق المواجهة والمناكفة وردّ الصاع صاعين. المُسامح عاقلٌ؛ لأنّه لم يُقابل (الجهل) بـ(جهل). وهو عاقلٌ؛ لأنّه يستخدم عقله في المواطن والمواضع التي تنقده من مغبّة الشر والمصادمة، وتصعيد الموقف، وإشعال النيران.. عقله (يهديه) فـ(يُنجيه). وهو عاقلٌ؛ لأن عقله يُنزِّهه عن المنكر ويأمره بالمعروف. والمُسامح عاقلٌ لأنّه يستهدف الصلاح. وهو عاقلٌ – تمام العقل – إذ لا يستعين بالعشيرة أو بالشرطة أو بالسفهاء ليؤدِّبوا المسيء بطريقة مؤلمة أو مفجعة.. إنّه يستعين بعلقه عليه، والعقل لا يغشّ مَن استنصحه. وإلى هذا وذاك، فالمُسامح عاقل؛ لأنّ نفسه تجاذبه بين (عقله) و(هواه)، فلا يسمح بالغلبة للثاني على الأوّل.   16- التسامح.. تقوى: هل عندك أدنى شك في تقوى المُسامح؟ لنعرف التقوى أوّلاً، حتى نعرف بعد ذلك هل المُسامح متّقي أو لا؟ التقوى إيمان مع مخاقة الانزلاق إلى هاوية الانحراف، فهي سياج عاصم من الانحرافات.. هي وقاية.. والوقاية خيرٌ من العلاج. بهذا المعنى.. المُسامح متّقي من الدرجة الأولى، إنّه يخاف إن عصى ربه عذاب يوم عظيم.. لأنّ بالتقوى التي هي ملاك الأمر وأقوى الأسس فاز الفائزون. يقول الإمام علي (ع): "إنّ مَن فارق التقوى أُغرِيَ باللذات والشهوات، ووقع في تيه السيِّئات، ولزمه كبير التبعات". ولو عرضنا هذا على المُسامح، لرأينا أنّه (عرضت) له أوّلاً لذة التشفِّي (فأعرض) عنها، ودعته (شهوة الإنتقام) فصدّ عنها، ولوّحت له الإساءة التي اقتُرِفَت بحقِّه بأن يُقابلها، فأبى. فلم تلزمه تبعة لأنّه حازَ على مُنتهى رضا الله. أراد الموقف المتشنِّج الآني أن يستدرجه، فحرصَ على أن لا يمدّ له يداً، وهل التقوى إلا هذا؟!   17- التسامح.. تزكية: التزكية عمل رياضي، هو بذل المجهود للحصول على (الرشاقة) المعنوية، ذلك أنّ الإسترسال مع الشهوات أشبه شيء بالإسترسال مع المأكولات، يُكثِّف الشحوم ويرفع نسبة الدهون في الدم، أما الكفّ عنها، أو كبح جماحها، أو بناء سد لمنع طوفانها من أن يأتي على الأشياء الحيّة، فيسبقها، فهو عملٌ مجيد. والمسامح – بهذه الرؤية – مُزكٍّ لنفسه و(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس/ 9)، فلو افترضنا العكس وهو أنّ المُساء إليه تجاوب مع أجواء الإساءة فأزبد وأرعد وهدّد وتوعّد وخطّط للإنتقام ونفّذ، فما هي مردودات عمله هذا على نفسه؟ إنها دعتهُ إلى السوء فأساء، وإلى الإنتقام فانتقم، وإلى الثأر فثار وثأر، فهل هذا من التزكية في شيء؟ هل هو من الطهارة والتنقية وإصلاح الذات؟ إنّه انقياد أعمى للغريزة. بينما نرى أن بمسامحة الآخر خلّص نفسه من الوقوع في براثن الانتقام الذي هو اندفاع غريزي لا يعطي عن صاحبه إلا انطباع الانفعال والتهوّر والتجاذب مع الإساءة.   18- التسامح.. عادةٌ خيِّرةٌ: التسامح من عادات الخير والأخيار، يقول الإمام علي (ع): "تخيّر لنفسك من كل خلق أحسنه، فإنّ الخير عادة، وتجنّب من كل خلق أسوأه، وجاهد نفسك على تجنّبه، فإنّ الشر لجاجة". فلكي يكون السماح والتسامح عادة حسنة، لابدّ من أن نعرف الإجابة عن سؤال: القابلية على التسامح من أين تأتي؟ أ‌-      من تقديرنا لإيجابيات ومنافع التسامح. ب‌- من مران ومراس وتذوّق علاقة التسامح بالتجربة. ت‌- من السعي للتخلّق بأخلاق الله العفو الغفور. ث‌- من محاولة امتلاك ملكة الحلم والصبر وكظم الغيظ. ج‌-   من تثبيت قاعدة أني لست الأفضل بين الناس.. إنّهم كما يخطئون فأنا أخطئ، وكما يزلّون أزل، وكما يضعفون أضعف. ح‌-   من معرفة أنّ "أشرف الثأرِ العفو"!   19- التسامح.. قدرة على العفو: تُجابه المُساء أو المُعتدى عليه قدرتان في الرد على الإساءة أو الاعتداء: قدرة الرد بالمثل أو الأسوأ، والقدرة على العفو، وفي اختيار إحدى القدرتين يتبيّن معدن الإنسان وجوهر شخصيّته. المُسامح ذو نفس كبيرة؛ لأنّه يتحلّى بالمقدرة على المغفرة، وقد أُثِر عن (جواهر لال نهرو) قوله: "النفوس الكبيرة وحدها تعرف كيف تُسامح"! وفي الأمثال العربية: "العفو عند المقدرة من شِيَم الكِرام". وكم كان الإمام جعفر الصادق (ع) بعيد النظرة حينما قال: "لأن أندم على العفو خير من أن أندم على العقوبة"!!   20- التسامح.. حائل عن الغرور: لو لم يكن المسامح متواضعاً، لقابل الإساءة بالإساءة، أو بالأسوأ؛ لأن نفسه حينذاك تُحدِّثه بأنه ذو شرف ومقام وجاه وعنوان وعشيرة، فكيف يسمح لـ(صعلوك) أن يتعدّى عليه، وكيف يجيز لـ(تافه) أن يتطاول عليه، وكيف يرضى الإهانة لنفسه من (ناقص)، وما إلى ذلك ممّا تختلقه النفس الأمّارة بالسوء ويُزيِّنه الشيطان. إنّ التسامح، بما هو حيلولة دون الغرور، تواضع، وبالتالي فهو زينة وهو رافعٌ صاحبه. إنّك إذا سامحت (ارتفعتَ) عن مستوى (العقوبة)، و(رفعت غيرك إلى مستوى (الصلاح)، فأن تُسامح وأنت لستَ بمعصوم يرفع ذلك من مقامك في نظر نفسك قبل نظر الآخرين إليك، إنّه يُكسبك شيئاً من العصمة.   21- التسامح.. إلتفات إلى الداخل: المُسامح قرّر ما يلي: بدلاً من أن يلتفت إلى عيب الآخر فيُعيِّره به، أو يذمّه عليه، أو يعاقبه به، انكفأ على نفسه ليرى ما فيها من عورات ومثالب ومآخذ وعيوب، وقد أحسن صُنعاً بذلك. يقول رسول الله (ص) في لفتة إنسانيّة غاية في النُّبل والإيحاء: "مَن أطفأ عن مؤمنٍ سيِّئة، كان خيراً ممّن أحيا موؤودة"! فأيّة قيمة للتسامح أرفع وأغلى من هذه القيمة؟ ويقول الإمام علي (ع): "استر عورة أخيك بما تعلمه فيك"! "فكلّك عورات وللناس أعينُ" كما يقول الشاعر. وجاء رجل إلى النبي (ص) فقال له: أحب أن يستر الله عليَّ عيوبي. فقال له (ص): "استر عيوب إخوانك، يستر الله عليك عيوبك". إنّ قرار مؤاخذة النفس على عيوبها، بطرح السؤال التالي عليها: وأنتِ يا نفسُ كم عندكِ من هذه الإساءات؟ سيرفعنا إلى درجة التسامح حتماً.   22- التسامح.. أمن وسلام: المُسامح مُسالِم، يُطفئ نار الحرب التي تُشعل ضدّه بمسامحته ومسالمته، هو إنسان مأمون الجانب، ربّما لم يقرأ ما قاله (غاندي): "إذا قابلت الإساءة بالإساءة، فمتى تنتهي الإساءة"؟ لكنّه حتماً يحمل في داخله مضمونها، إنّه ليس عدوانياً ولو شاء لفعل، لكنّه من حملة السلام والأمان إلى الناس.. هو (هابيلي) لا يبسط يده بالقتل ولا بالعدوان ولا بالإثم، وبالتالي فهو لا يريد إلقاء الحطب أو الزيت على النار، هو (إطفائي) يحاول إخماد الحرائق. والمُسامح يعمل بخير أخلاق الدنيا والآخرة. فعن النبي (ص): "ألا أخبركم بخير أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إفشاء السلام في العالم"! والمسامحون مسالمون ودُعاة سلام، ومن أمثالهم يؤمل الخير ويُنتظر السلام.   23- التسامح.. حمل فعل الآخر على الخير: حُسن ظنّك بالآخر، وحملك على أكثر من وجهه، والبحث عن عذر لما قام به أو صدر عنه، هو من صفات الإنسان المُسامح أو الشخصية المُسامحة، إنّك تضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيه منه ما يغلبه، ولا تظنّ بكلمةٍ خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً. يقول رسول الله (ص): "إطلب لأخيك عذراً، فإنّ لم تجد له عذراً فالتمس له عذراً". وهذا من أجل وأفضل أنواع التسامح، فهو ينطلق من نظرة إيجابية للآخر، ولا يحمل إساءته على أنّها إساءة؛ لأنّه قرّر سلفاً أن يتعاطى مع كلمات السوء أو أفعال السوء التي تخرج أو تصدر عن الآخر على أنّها قابلة للتبرير أو التأويل، أو أنّ القصد منها غير ما يبدو على السطح، فلعلّ له عذراً وأنت تلومُ!   24- التسامح.. قبول عذر المُعتذِر: من طبيعة الشخصية المُسامحة أنها تقبل عذر المُعتذِر بلا عنت ولا تأنيب ولا لوم، بل تُرحِّب بذلك ترحيباً حارّاً، حتى كأنّ المعتذر بالنسبة لها ذو نعمة عليها. يقول الإمام زين العابدين (ع): "لا يعتذر إليك أحد إلا قبلت عذره، وإن علمت أنّه كاذِب"! لماذا، حتى لو كان كاذباً؟ من أجل أن يبقى الباب مفتوحاً لتسوية النزاع أو الخِلاف، فإذا ثبت أنّ المعتذر اعتذر ليعاود الإساءة، فلكلّ حادثٍ حديث، وأما من حيث المبدأ فالإعتذار مؤشِّر على الاعتراف بالخطأ، ويؤخذ بهذا اللِّحاظ. ويدعو (ع) إلى روحية التسامح وقبول الإعتذار من غير تعنيف المُخطئ أو المُسيء، فيقول: "إن شتمكَ رجلٌ عن يمينك ثمّ تحوّل إلى يسارك واعتذر إليك، فاقبل عذره". أي لا تؤخِّر قبولك لعذره، فلعلّه أخطأ ثمّ استدرك. أمّا ما هو أثر قبول العذر والتسامح أو المُسامحة، فقد عبّر الإمام علي (ع) عنه بقوله: "إقبل أعذار الناس تستمتع بإخائهم، وألفهم بالبشر تُمِتْ أضغانهم". وشدّد النبي (ص) على مَن لم يقبل المعذرة، بقوله: "مَن أتاه أخهُ متنصِّلاً (أي معتذراً) فليقبل ذلك منه، مُحقّاً كان أو مبطلاً، فإن لم يفعل لم يرد عليّ الحوض"! إنّ اعتذار المُسيء تكفير عن الإساءة، فليجد عندك عَوْناً على غسل أو محوه أو شطب إساءته، ولا تكن أنت والشيطان عوناً على أخيك.   25- التسامح.. إحياء للسنة المطهّرة: المسامح يقتدي بهدي نبيّه (ص)؛ لأنّه أفضل الهدي، ويهتدي بسنّته فإنّها أهدى السنن، فلقد مرّ بنا كيف كان (ص) يُسامح المسيء، ويغفر للمذنب، ويعفو ويصفح عن المخطئ، وكيف أنّه سامح قريش التي أذاقته ألوان العذاب، فجعل قدرته عليهم فرصة للعفو عنهم، وكيف أنّه سامح (وحشيّ) قاتل عمّه حمزة (رض)، وسيرته (ص) حافلة بنماذج وشواهد العفو الكثيرة التي أخذها عنه أهل بيته (ع) والأبرار الصالحين من أبناء هذه الأُمّة. فهذا حفيده الإمام الباقر (ع) يتعرّض للإساءة من شخص ربّما أراد اختبار حلمه وصبره على الأذى، فإذا به ينعته بأنّه بقرة، فلا يرد عليه الإمام بأكثر من أن قال: لقد سمّاني جدِّي رسول الله (ص) الباقر، ولمّا عيّره بمهنة أُمّه وهي الطباخة، قال له: تلك هي حرفتها، ولما زاد في الإساءة بقوله: يا ابن الزنجية البذيئة، لم يخرج الإمام عن طوره، بل قال له بكل هدوء: إن كانت كما تقول غفر الله لها، وإن كانت ليست كما تقول غفر الله لك! وإذا بهذا اللطف والتسامح والترفع عن مقابلة الإساءة بالإساءة، يفعل فعله في نفس المُسيء البذيء ليتوب على يدي الإمام ويشهر إسلامه.   26- التّسامح.. توفيق: والمُسامح – بعد هذه الجولة في خصائص شخصيّته – موفّق قد أنعم الله تعالى عليه بنعمة التوفيق في عمله وسلوكه ومواقفه، ولذلك ورد في الأثر: "مَن أمدّه التوفيق أحسن العمل". فبمساعدة التوفيق استطاع المُسامح يُسامح. يقول الإمام علي (ع): "إنّ لكم عند كل طاعةٍ عوناً من الله سبحانه". ولذلك استوجبت المُسامحة الشكر للمُنعِم الذي وفّق لهذه الطاعة وسائر الطاعات. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ - الهوامش: (*) ما كُتب في التسامح وعن المسامحة كثير، لكنّنا – ونحن نحاول إبراز هذه القيمة الإجتماعية والأخلاقية – نحاول أن ننظر إلى روحية التسامح من خلال علاقتها بمنظومة واسعة من القيم الحياتية التي تكشف عن أنّ المسامحة شجرة لها أغصان، أو هي فرع من أشجار أخرى، ممّا يعطينا إمكانية النظر إلى مفهوم التسامح نظرة شمولية تتعدّى الوقوف عند معانيه القريبة أو المتداولة، كما يبيِّن لنا أنّ المفاهيم الأخلاقية تتنافذ على بعضها البعض، وأنّ بينها ترابطاً عضوياً كبيراً يُعزِّز انتماءها لأسرةٍ واحدة.

ارسال التعليق

Top