• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التعامل مع الخالق

أسرة البلاغ

التعامل مع الخالق

ربط القرآن الكريم القضايا التشريعية والتكوينية والروحية ربطاً محكماً في ساحة الحياة البشرية.. وانطلق الكتاب الإلهي المحكم في معالجة الأمور الحياتية على نحوٍ متكامل، فشرّع نظام العبادة في الإسلام، وأكّد على وجوب ممارسة القضايا التعبدية كالصلاة والصيام والحج والزكاة والخمس.. إلخ.. وشرّع النظام الاجتماعي في الإسلام، الذي يتناول حقوق المرأة والجار، والوالدين، والإرث، والمعاشرة الزوجية، والتكافل الاجتماعي... إلخ.. وشرع النظام السياسي في الإسلام، فبلور مفهوم الإمامة كقيادة شرعية للأُمّة، ونهى عن تولّي الظالمين قيادة الأُمّة، ودعا إلى محاربتهم.. وشرع النظام الأخلاقي في الإسلام الذي يدعو الناس إلى التزام صفة التقوى في التعامل مع الأفراد، ومع المجتمع ومع الخالق سبحانه وتعالى.. وهكذا تعامل القرآن الكريم مع بقية الأمور الحياتية، فربطها بنقطة واحدة ومحور واحد، وهو رضى الله سبحانه وتعالى..

وعلى هذا المبدأ تناول القرآن الكريم، قضية التعامل مع الخالق سبحانه وتعالى، وبالأخصّ ذكر الله عزّ وجلّ، فربطها بواقعية الحياة، حتى لا يمتد بنا الأمل إلى رفض الحياة الاجتماعية الواقعية فندخل عالم التصوف، المنقطع عن الحياة.. يقول سبحانه وتعالى، مذكِّراً المؤمنين بذكر الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا) (الأحزاب/ 41-42).. وفي ساحة القتال والشدة يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال/ 45). وفي حالة الرخاء.. يقول تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 238-239).. وفي بيوت الله.. يقول تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ) (النّور/ 36-37). ويقول أيضاً: (وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) (الحج/ 40). وفي المناسك.. يقول تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة/ 203). وفي الخلوة مع النفس.. يقول تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف/ 205). ويقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 190-191). وفي أثناء السعي في الحياة.. يقول تعالى: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة/ 10)، ويقول أيضاً: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) (البقرة/ 200).

والنقطة التي يهدف إليها القرآن الكريم من هذا العرض المتواصل للدعوة إلى ذكر الله سبحانه وتعالى هي أن يكون للإنسان المؤمن هدف أسمى من التطلعات الدنيوية المتداولة بين الناس، كجمع المال، والأولاد، والتفاخر، والاستعلاء.. فإنّ ذكر الله سبحانه يبعث في النفس شعور الطمأنينة والتواضع والشفافية.. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون/ 9).. وعندما يدخل الإيمان قلب الإنسان التائه.. ينطلق ذلك الشعاع الربّاني لينقّي تلك النفس البشرية، فتتعود على ذكر الله سبحانه، وهنا يستقر القلب على حب الله، وتستقر النفس على السكون إلى رحمة الله سبحانه.. يقول تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (الرعد/ 28-29).

إنّ الإنسان، ذلك التكوين الضعيف، يحتاج في فهمه لأبعاد الحياة، إلى صلة وعلاقة تربطه بالخالق العظيم.. وذكر الله سبحانه في كلّ وقت، وفي كلّ حال، إنما هو تعبير رائع لهذه العلاقة التي تحقق الاستيعاب الشامل لمفردات الكون والحياة والإنسان..

ارسال التعليق

Top