• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التعفف شارة الإيمان

أ. د. محمود عباس*

التعفف شارة الإيمان

 ◄من الخير أن نعلم أوّلاً أن أرقى وسام يمكن أن يفوز به المسلم في حركة حياته هو وسام العفة وأنّ هذا الوسام لا يعلق إلا على صدور الحريصين على طلب العفاف، فكلما حرص المسلم على الاستعفاف منحه الله العفة، ففي حديث رسول الله (ص): "وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ" أي من يطلب العفة في الحياة يهنئ الله له أسبابها ويمنحه إياها، وحياة الإنسان تشبه المعرض الفتان، ففيه المغريات والمشتهيات وفيها ما يسيل اللعاب من المحرمات وفي حياتنا كذلك ما تشتهيه نفس المحروم من الطيبات فإذا لم يتحل الإنسان بالعفة وهو يواجه تلك المغريات ساء سلوكه وسقطت مروءته وربما وقع فيما يستوجب العذاب الأليم من الله عزّ وجلّ. ومن هنا كان المسلم بشكل خاص مطالباً بحكم دينه وأخلاقه ومروءته أن يكون حريصاً على عفة النفس، فلا يطلب ما لا يحل له من محارم الله ولا يتطلع إلى شيء لا يليق بأخلاقه ومروءته، بل على المسلم أن يكف عن المحارم والأطماع الدنية إذا أراد لنفسه العفاف وأن يتأسى رسول الله (ص) وهو يسأل ربه أن يمنحه العفة أو يقول: "اللّهمّ إني أسألك العفاف والغنى" والقرآن الكريم يطرح علينا قضية العفة والاستعفاف في صور متعددة طرحها علينا في سلوك الفقراء من المؤمنين الأخيار، هؤلاء الذين منحهم الله العزة بعفة النفس، وجعلهم أغنياء بالتعفف لا يتطلعون إلى ما عند الناس، لأنّ الله وهبهم غنى النفس، ولا يريقون ماء الوجه بمذلة السؤال لإيمانهم (أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) (الروم/ 37)، فاستحقوا بهذا اليقين أن يسجل لهم الحق سبحانه في كتابه الخالد أكرم صورة يعتز بها المؤمنون بعفتهم فيقول جل في علاه: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) (البقرة/ 273)، وطرحها علينا في صورة الأغنياء الأوصياء المتعففين عن أكل أموال اليتامى (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء/ 6)، وطرحها علينا في صورة الأغنياء الأوصياء المتعففين عن أكل أموال اليتامى (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور/ 33)، فإذا بلغت الفتاة مبلغ النساء أو بلغ أخوها مبلغ الرجال فكلاهما قد يحرص على الزواج في لهفة واستعجال. والعجلة قد توقع صاحبها فيما لا ينفع فيه الندم ومن ثمّ دعاهم القرآن إلى طلب العفة، ونصح لهما رسول الله (ص) بكثرة الصوم إذا لم تتهيأ لهما أسباب الزواج "وَمَن لمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإنَّهُ له وجاءٌ" ففي الصوم طهارة الروح وصفاء النفس وكسر الشهوة.

 وفي عصور ازدهار الحضارة الإسلامية بعطائها العلمي وسموها الأخلاقي والنفسي سجل تاريخ الإسلام صوراً مشرقة بالعفة كان أصحابها ولا يزالون مضرب الأمثال في عفة النفس والسمو بها عن عالم الطين والتراب، فقد كان العالم العابد يستعفف عن عطايا الحكام والأمراء، وكانوا يرون في ذلك صيانة لدينهم وعلمهم من الخضوع لهوى حاكم أو أمير.►

 المصدر: كتاب (القرآن وقضايا العصر)   *أستاذ بجامعة الأزهر

ارسال التعليق

Top