• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التقنية.. قلم وورقةُ العصر

د. محمد الرميحي

التقنية.. قلم وورقةُ العصر

◄أحزن عندما أعرف أن أحد المربين، كأساتذة الجامعات أو الكليات أو المدارس لا يتعامل مع وسائل الاتصال الحديثة، مثل البريد الإلكتروني وما جاوره من تقنية كالكتابة على الكمبيوتر وما شابه ذلك من وسائل اتصال حديثة. بل إنّ البعض يقول لك مفاخراً أنّه لا يتعامل مع تلك الوسائل، بل ما زال مخلصاً للقلم والورقة وربما ما زال يستخدم الفاكس في الاتصال. كما أحزن بسبب وجود من لديهم التقنية الحديثة في شكل أجهزة في كثير من مؤسساتنا، ولكنها محشوة ببرامج قديمة، وكثيراً ما أرسل بعض المقالات أو الدراسات إلى تلك المؤسسات ويأتيني الجواب بعد حين، أنها لم تفتح عندهم، في الحقيقة أنها لم تفتح لأنهم يستخدمون البرامج القديمة. لقد استبدلت في عصرنا التقنية الحديثة بالورقة والقلم في التواصل، ولم تعد الكتابة على ورقة هي الأصل. الوقت قد تغير وأصبحت حياتنا معجونة ومتداخلة بالتقنية الحديثة. المشكلة أن كثيراً من البشر حولنا لم يعدوا أنفسهم لهذه النقلة، وعلينا أن نقوم بإعداد الأجيال القادمة للتكيف مع تلك التقنية المتطورة. يفاخر البعض أن بنته أو ابنه يقوم بقراءة رسالة الكترونية والرد عليها، وهي مفاخرة تجلب التعاسة لأمثالي، لأني أرى، مهما بلغت من العمر، فأنت تستطيع أن تتعلم وتتقن التعامل مع التقنية الحديثة بشكل جيِّد في غضون أيام أو حتى أسابيع.

في حياتي العملية التقيت بهذا النوع من الناس، كاتب كبير ومثقف يقول لك منذ البداية، أنا لا أستطيع التعامل مع الجهاز التقني "الكمبيوتر"، ولكن من خلال تجربة عملية في أكثر من موقع عملت فيه، وجدت أنّه بالإصرار ومن خلال الترغيب يستطيع أي فرد أعطي من المهارة القليل أن يتعلم كيف يتعامل مع التقنية الحديثة، وقد نجحت – تقريباً – في معظم الأحوال أن أحول بعض الأميين التقنيين إلى تفكيك خوفهم والتعامل لاحقاً بسهولة مع الأجهزة الحديثة. في كثير من الأوقات نرى أنّ البشر الذين نتعامل معهم يصعب التعلم التعلم، ولا يستطيع أي منا التأثير عليهم، لأنهم يعملون في مؤسسات بعيدة عن سيطرتنا، ولكن المعضلة تبقى قائمة. إنها الفجوة الرقمية لدى البعض والتي تتجاوز فروق السن لتصل إلى فروق الرغبة والقدرة.

حياتنا تتغير بطرق لم نستطع توقعها قبل عقدين أو حتى عقد من الزمان، حتى في السنوات الأخيرة، عندما ترغب في السفر، لابدّ أن تذهب إلى مكتب سفريات، وتقدم الأوراق اللازمة، ثمّ يصدر لك تذكرة ورقية، لابدّ أن تحملها بنفسك مع حاجاتك إلى مكتب المغادرة في المطار، وبعد التدقيق يخرج لك الموظف أوراقاً أخرى حتى تصعد إلى الطائرة، اليوم الأمر أقل من ذلك بكثير جدّاً جدّاً، ففي أكثر الأوقات تستطيع أن تصدر لك تذكرة سفر وأنت جالس في مكتبك أو منزلك، ولا تحتاج إلى أيّة أوراق، فقط رقم واحد تسجله على ورقة صغيرة أو تطبعه، وتقدمه إلى موظف السفر في المطار، ويبعث هو قليلاً بجهاز أمامه، ثمّ يستخرج لك بطاقة صعود الطائرة، بل إن بعض المطارات لا تحتاج فيها أن تذهب إلى موظف، يكفي أن تتعامل مع جهاز إلكتروني في المطار ثمّ يستخرج لك الجهاز بطاقة صعود الطائرة، دون أن تتحدث مع أحد، أو تبتسم ابتسامة صفراء لآخرين حتى يعينوك على هذا العبء! في الكثير من المعاملات اليوم لا تحتاج إلا إلى بضعة أرقام لا غير، إننا مقدمون على الحياة الرقمية الجديدة.

الحياة المستقبلية تحمل لنا الكثير من هذا التقدم الباهر. الآن أصبح الإنسان رقمياً بامتياز، فعدد ضربات القلب يمكن قياسها بجهاز ومستوى الكولسترول، وعدد السعرات وحجم المحروق منها، كلها تقاس في المنزل بأجهزة الكترونية رقمية حديثة. بل أصبح من يحمل هاتفاً نقالاً حديثاُ ويسمى "ذكيا" يعمل "صحفياً" متنقلاً أو حتى طبيباً مبتدئاً، وكثيراً من الحوادث والأحداث في عصرنا التقطها أحد الأشخاص العاديين من خلال هاتفه النقال، أكان ذلك عن قصد أو بالصدفة. نقلت لنا الأخبار في الشهر الماضي أن مسافراً التقط صورة أصبحت عالمية بسبب هاتفه النقال، حيث صور إحدى طائرات شركة دولية وهي تتخلص من الوقود في الجو، بسبب عطل أرغمها على العودة من جديد إلى المطار الذي غادرته، ولأنّها مثقلة بالوقود تخلصت منه في الفضاء، فطارت تلك الصورة لكل وسائل الإعلام الدولية!

كنت أتحدث مع صديق أصبح جدّاً منذ سنوات، أن حفيده ذو الثماني سنوات طلب منه أن يشتري له "آي باد" ذلك الجهاز الظريف الذي يحبه الأطفال، وكان مستغرباً أن يعرف حفيده الاسم والشركة المصنعة والمواصفات أيضاً، عجب صديقي جاء من تصوره أن طفلاً في ذلك السن يريد لعبة ما، أو هدية يفرح بها من في مثل سنه، قلت للصديق أنت مسجون في زمانك القديم، كنت في ذلك السن تفرح بلعبة أو ربما بعجلة هوائية صغيرة أو كرة تلاعب بها أقرانك، اليوم الجيل اختلف تماماً، وطلب حفيدك طبيعي جدّاً في هذه الأيّام!

مع وجود التقنية الحديثة يتساءل البعض كم هي تلك التقنية اليوم كثيرة ومتعددة وربما أكثر من اللازم؟ سباق التطوير في الحقيقة مذهل، ليس فقط في إنتاج أجهزة جديدة، بل وفي تطوير البرامج المختلفة التي تُشغلها، وهو تطوير يصل إلى آفاق عالية من القدرات قد لا يصدقها البعض لأوّل وهلة، الهاتف الحديث، مجرد أن تأتيك مكالمة، ودون أي جهد، ترفعه إلى أذنك، تفتح المكالمة، ومجرد أن تبعده عن الأذن بمسافة تقفل المكالمة وكأنها انتهت! في الكتابة على الكمبيوتر صُممت الآن برامج تحفظ تسلسل كلماتك، فإن كتبت كلمة أو عبارة يستطيع البرنامج أن يكملها لك، أو يقترح عليك خيارات تنتقي منها ما يناسبك.

المعلومات أصبحت سهلة وميسرة من خلال ما صار يعرف شعبياً بـ"العم جُوجل" في أي لحظة تستطيع أن تجيب على أي سؤال يطرح في أي مكان، ما دام جهازك اللوحي أو تليفونك النقال متصل بـ"العم جوجل".

وعندما تستخدم التقنية بشكل إيجابي فإن لها فوائد جمة سواء في المنتديات الاجتماعية أو وهو الأهم في فصول المدرسة. لا أعتقد أن فصلاً من فصول التدريس اليوم يجب أن يخلو من جهاز لوحي للمساعدة في التعلم، ولحفظ المواد والعودة إليها في أي وقت، بل وفي تخزين الكتب وقراءتها.

في مجلة الفورن افيرز ذائعة الصيت عدد يناير 2013 مقال طويل عن فورة التقنية، المعلومات الواردة فيه مذهلة، فهي تقول أن 80% مما هو مسجل لدى البشرية "كتب ومقالات ومجلات" أصبح رقمياً الآن، وحتى يقربنا المقال من فهم حجم ذلك المخزون الذي سماه المخزون الضخم “Big Data” يقول المقال، لو تصورنا أنّ هذا المخزون الرقمي وضع على أقراص الكترونية في خمسة صفوف أو رصات فوق بعضها، لوصلت كلّ رصة من الأرض إلى القمر! هكذا هي التقنية الحديثة التي تشكل حضارة البشرية اليوم.

عند استخدام هذه التقنية في الفصول الدراسية ثبت باليقين العلمي أن لها فوائد في تجويد التعليم، خاصة لدى المدارس الأولية، مثل رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، وهي كذلك مهمة في ما بعد ذلك من درجات التعليم. لو كان الأمر بيدي لوضعت قاعدة في مدارسنا أن أية مكافأة أو جائزة يحصل عليها الطلاب أو الطالبات يجب أن تكون جهازاً لوحياً يستفيدون منه لترقية معلوماتهم.

الأبحاث أثبتت أنّه عند الاستخدام الصحيح للتقنية في التعليم من خلال الكمبيوتر أو الأجهزة التفاعلية فإنّ الأطفال والمتعلمين تتطور لديهم قدرات ذهنية وعقلية، وهذه الاجهزة تساعد الطفل على ترقية اهتماماته وحبه للاكتشاف فما يسمى اليوم بـ"التعليم المزدوج أو المتداخل" ولكن علينا أن نتذكر قول بيل جيتس الأب الروحي للتقنية الحديثة، أنّ الأدوات هي فقط أدوات، المدرس هو الذي يستطيع أن يجعل منها نافعة أو حتى مضرة! ففي الوقت الذي يرى الجميع إيجابية التقنية في التعليم، لا يحتاج المرء إلى كثير من التبصر حتى يعرف مضارها أيضاً، من بعض تلك المضار استخدام التقنية بشكل سلبي أو حتى الإدمان عليها، فبدل أن تكون خادمة للإنسان تصبح سيدة له. المشاهد اليوم في المجتمعات الحديثة أن بعض المدارس تخصص حصصاً للآباء والأُمّهات من أجل تبصيرهم بالمخاطر التي قد تنشأ من الاستخدام السلبي لتقنية، كما تثقفهم في الاستخدام الأفضل.

التقنية في نهاية المطاف هي الثورة الحقيقية في التعليم والحياة اليوم، ومن يفرط في عدم الاستفادة منها يفرط في احتمال حياة أفضل وأسعد وأكثر إنتاجاً.►

ارسال التعليق

Top